أن تكون يمينياً يعني أنك تريد عظمة فرنسا. أن تكون يسارياً يعني أنك تريد سعادة الفرنسيين". كانت هذه الإجابة ‏التي يقول الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت – سبونفيل إن والده قدمها له في سنٍّ مبكرة عندما سأله عما يعنيه كلّ من ‏اليمين واليسار.‏

بهذه العبارة اختصر الرجل الانقسام الأيديولوجي الذي ولد في فرنسا إبّان الثورة الفرنسية عام 1789، ثم صُدّر إلى ‏الحياة السياسية في أوروبا وفي معظم أنحاء العالم حتى يومنا هذا.‏

ولا يزال هذا الانقسام طاغياً في فرنسا حيث هيمن على الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي فاز فيها اليسار الممثل ‏بائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة بشكل لم يكن متوقعاً، فيما هُزم اليمين المتطرف الممثل بالتجمع الوطني والذي بدا ‏في الجولة الأولى من الانتخابات قريباً من الفوز.‏

ما هو أصل التسمية؟

تفيد القصة الشهيرة أن مصطلحي "اليمين" و"اليسار" ولدا من ترتيب الجلوس في الجمعية الوطنية للثورة الفرنسية ‏عام 1789، ولكن المؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه يقدّم تحليلاً أكثر دقةً لأصل هذه التفرقة.‏

وبحسب القصة الشائعة، فإنّ اعتماد مصطلحي "اليمين واليسار" للتصنيف على أساس الميل السياسي، جاء من ‏تقسيم المقاعد في الجمعية الوطنية أو البرلمان الفرنسي، إذ تحرّك أنصار الملك والنظام تدريجياً صوب يمين ‏الرئيس، فيما انتقل أنصار الحرية والمساواة إلى اليسار.‏

ولكن، بحسب غوشيه، فإن هذا التصنيف الثنائي لم يصبح استعارة سياسية هامة إلا في وقتٍ لاحق، لا سيما مع ‏صعود الاشتراكية في أواخر القرن التاسع عشر.‏

ويجادل بأن المعنى السياسي الحقيقي والأثر الاجتماعي الأوسع لهذا التفرقة اليسارية - اليمينية لم ينشأ فقط من ‏أحداث الثورة الفرنسية، أو ترتيب مقاعد البرلمان الفرنسي بحسب الموقف من الملكية، بل من خلال تطور ‏الأيديولوجيات السياسية، وبخاصة ظهور الحركات الاشتراكية.‏

ينتقد غوشيه تبسيط السرد التاريخي، مشيراً إلى أن استعارة اليسار واليمين اكتسبت أهميتها السياسية الكبيرة ‏وعالميتها مع نمو الاشتراكية الديمقراطية. ويقول إن هذا التصنيف الذي كان ينطبق في البداية على ترتيبات الجلوس ‏البرلمانية، أصبح في النهاية يرمز إلى صراعات أيديولوجية أعمق حول المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتنظيم ‏المجتمع.‏

وفيما أصبح المصطلحان يستخدمان بمرور الوقت على نطاق واسع لوصف الأيديولوجيات والمواقف السياسية ‏خارج سياق الثورة الفرنسية، يعود بنا تأصيل المعاني التي اقترنت باليسار واليمين تاريخياً إلى ملاحظة الدلالة ‏الأخلاقية التي ترتبط بهما والتي رسّخت التسمية على الأقلّ في بداياتها.‏

في هذا السياق، يلاحظ كتاب "اليسار واليمين" لمؤلفَيه آلان نويل وجان فيليب تيريان أنه في اليونان القديمة مثلاً، ‏كانت اليد اليمنى مرتبطة بالذكورة، بالخط المستقيم، بالنور وبالخير، بينما كانت اليد اليسرى تشير إلى صورة ‏المرأة، وكل ما هو معوجّ، وإلى الظلام والشر. ثم نجد في التقاليد اليهودية، ثم المسيحية والإسلامية، أنّ "المختارين ‏يكونون على يمين الله والملعونين على يساره". كما يعتبر البوذيون أنه بعد الموت، نقف أمام مفترق طرق، وأن ‏الطريق اليمين هو الذي يؤدي إلى النيرفانا أو حالة الخلاص.‏

وينقل الكتاب عن عالم الاجتماع روبرت هيرتز أن "اليد اليمنى شكّلت دائماً رمزاً ونموذجاً للأرستقراطية فيما تمثل ‏اليد اليسرى العامة والشعب". ويلفت المؤلفان إلى أن لغات العالم كافة تنقل الرسالة نفسها، حيث أن المصطلحات ‏التي تشير إلى اليمين ترتبط عموماً بصفات حميدة والمصطلحات التي تشير إلى اليسار ترتبط بالعيوب. في اللاتينية ‏على سبيل المثال، الكلمة التي تعني اليمين هي ‏dexter، والتي جاء منها مصطلحdexterity‏ أي المهارة، أما الكلمة ‏التي تعني اليسار فهي ‏sinister‏ التي باتت تشير إلى الشرّ والأذى.‏

كذلك، في اللغة المحكية في مصر على سبيل المثال نجد عبارة "السكّة الشمال" أي الطريق إلى اليسار والتي ترتبط ‏بالرذائل والأفعال المكروهة اجتماعياً.‏

ثم انتهى المطاف بانقسام اليسار واليمين ليصبح الاستعارة السياسية العالمية الأشهر حتى يومنا هذا. هذا "التصنيف ‏الثنائي الفقير والتبسيطي" كما يقول غوشيه بتعجّب، "تمكّن من تجسيد المشاعر، والعواطف، والأفكار والذكريات ‏لأجيال بأكملها، في كل أنحاء العالم".‏

انقسامٌ متحرّك

على الرغم من كون اليسار معروف تاريخياً بتبنّيه قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والتقدّم، فيما يرتبط اليمين بقيم ‏المحافظة والرجعية وعدم إيلاء المساواة أهمية كبرى، يظهر تاريخ نشأة هذا الانقسام في فرنسا أنه لطالما كان ‏انقساماً سلساً أو مرناً أو متحرّكاً (سائلاً بالتعبير الحرفي أي بعكس الجامد).‏

تاريخياً، تبادل المعسكران العديد من القيم والأدوار، كما أن الحركة السياسة جعلت الجهات والتنظيمات تتبدل، فمن ‏كان يُصنَّف يسارياً في مرحلة ما اقترب شيئاً فشيئاً من اليمين وأحياناً بالعكس.‏

في فرنسا كما في أماكن أخرى، تحت النظام القديم قبل الثورة، لم تكن الاستعارة السياسية الأساسية أفقية بل ‏عمودية، أي بين من هم "فوق" ومن هم "تحت".‏

قصة مسلة مصرية تحتفل أمامها فرنسا كل عام بعيدها الوطني

ويقول غوشيه إنه خلال معظم القرن التاسع عشر، بقي التمييز بين اليسار واليمين محصوراً في مؤسسة واحدة وفي ‏بلد واحد فقط. وكان يخص حياة الجمعية الوطنية الفرنسية وجزءاً من المفردات التقنية للشؤون البرلمانية فقط.‏

وعند تبنّي حقّ الاقتراع العام للذكور في عام 1848، كان السياسيون والناخبون الفرنسيون يتحدثّون بدلاً من ذلك ‏عن المعارضة الحادة بين الجمهوريين والمحافظين، أو بين "الحمر والبيض"، وهما الفريقان اللذان انقسم بينهما ‏المدافعون عن الثورة والمعارضون لها.‏

كان هذا الانقسام مشابهاً جداً للذي كان موجوداً بين اليسار واليمين في الجمعية الوطنية الفرنسية، لكن الاستعارة ‏المكانية لم تكن قد انتقلت إلى الاستخدام العام، ولم تكن عالمية بعد.‏

حدث التحول في تسعينيات القرن التاسع عشر، مع صعود الاشتراكية في فرنسا. حتى ذلك الحين، كان اليسار ‏البرلماني يعرف أساساً بدفاعه عن الجمهورية، الديمقراطية والعلمانية ضد اليمين الذي لا يزال متمسكاً بالمَلَكية، ‏وبحق التصويت المحدود، وبالتمويل الحكومي للمؤسسات الدينية. ولكن في نهاية القرن التاسع عشر، برز يسار ‏جديد، لم يكن جمهورياً فحسب، بل أيضاً اشتراكياً.‏

ومثّل الاشتراكيون طبقة عمالية متزايدة التنظيم تشارك في حركة أممية، وباتوا يشكلون تحديًا للجمهوريين الذين ‏كانوا متمسكين بترك الأمور على حالها في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.‏

وبدءاً من عام 1893، حققت الأحزاب الاشتراكية مكاسب انتخابية وسيطرت تدريجياً على اليسار في الجمعية ‏الوطنية، مما دفع الجمهوريين إلى اليمين. وانضوى في كلا المعسكرين نواب يؤمنون بالجمهورية ويعتبرون أنفسهم ‏من اليسار، ولكن الجمهوريين القدامى كانوا مضطرين إلى أن يصبحوا "رجال الوسط الذين أجبرتهم الظروف على ‏الجلوس إلى اليمين".‏

عندئذٍ، اكتسب انقسام اليسار واليمين المعنى الذي نعرفه اليوم.‏

وأصبحت الاستعارة المكانية تصف انقساماً أساسياً بشأن المساواة، وهو أمر عام بما يكفي لإعادة تشكيله بناءً على ‏تطور الظروف والتحالفات، من دون إلغاء معناه كتمثيل جماعي للصراع الدائم الذي يقسم الديمقراطيات.‏

والأهم من ذلك، أن استعارة اليسار واليمين تجاوزت حدود الساحة البرلمانية لتنتشر إلى المجتمع الفرنسي ككل، ‏‏"وتحدّد معسكرين سيقاومان الزمن ويشكلان ثقافتين سياسيتين متعارضتين"، بحسب نويل وتيريان.‏

نظرتان مختلفتان إلى العالم والزمن

يقول غوشيه إن استمرارية الانقسام بين اليسار واليمين يكمن إلى حد كبير في البُعد الأنثروبولوجي والعاطفي، إذ أن ‏واقع الانقسام – خصوصاً في عصرنا هذا - لا تحدده برامج سياسية، بل هو أقرب إلى العواطف.‏

فبالنسبة لشخص يشعر بأنه ينتمي لليمين اليوم، فإن اليسار دائماً مكوّن من "السذّج" الذين لا يعرفون ما هي الحقيقة ‏و"يعيشون في الغيوم". وبالنسبة لشخص ذي ميل يساري، فإن اليمين دائماً "مأهول بالأوغاد"، أو الأشخاص غير ‏الأخلاقيين الذين يتقبّلون كل ما هو سيّئ في العالم بحجة أن "هذا هو الحال"، في حين أن الموقف الشرعي الوحيد ‏بالنسبة لليساريين يجب أن يكون الثورة.‏

من جهته، وضع الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل أساسيات للتفرقة بين المعسكرين، على الرغم من أن ‏الواقع الحالي أظهر تعقيدات وتداخلات تخطت تلك الفروقات الأساسية.‏

ويقول في كتابه "المعجم الفلسفي"، إن اليسار، منذ الثورة الفرنسية، يدعم التغييرات الأكثر جذرية أو الأكثر طموحاً. ‏حيث أن الحاضر لا يرضيه أبداً، وهو يريد أن يكون ثائراً أو إصلاحياً - والثورة أكثر يساراً من الإصلاح بالطبع. ‏أما اليمين فهو يستمتع أكثر بالدفاع عما هو موجود. إذاً، برأي كونت-سبونفيل، هناك جانب متحرّك من جهة، ‏وجانب نظامي محافظ أو رجعي من الجهة الأخرى.‏

ويرى أن "الفارق التوجيهي" بين الإثنين هو أن اليسار يريد أن يكون متقدماً، إذ إن الحاضر يمثّل بالنسبة له مصدراً ‏للملل أو خيبةً لآماله؛ والماضي يثقل عليه: فهو يفضل أن يمحوه، وأن يقوم، كما يقول نشيد الأممية، قلب "صفحة ‏بيضاء"، أي البدء من جديد.‏

ويلاحظ أن الجهتين ليس لديهما العلاقة نفسها مع الزمن، ولا العلاقة نفسها مع الواقع أو مع الخيال. يقول إن "اليسار ‏يميل أحياناً، بطريقة قد تكون خطيرة، نحو اليوتوبيا. بينما يميل اليمين أحياناً، بطريقة قاسية، نحو الواقعية. اليسار ‏أكثر مثالية، بينما اليمين أكثر اهتماماً بالفعالية".‏

ويضيف أن ذلك لا يمنع الرجل اليساري من أن يكون واقعياً أو أن يسعى إلى الفعالية، ولا يمنع الرجل اليميني من ‏أن يمتلك أهدافاً سامية، و"لكنهما يخاطران في كلتا الحالتين بإيجاد صعوبة كبيرة في إقناع معسكراتهم الخاصة".‏

الفرق الثالث بالنسبة للفيلسوف الفرنسي هو بشكل أساسي سياسي، إذ أن اليسار يريد أن يكون إلى جانب الشعب، مع ‏منظماته (الأحزاب، النقابات، الجمعيات)، وتمثيله (البرلمان). فيما يكون اليمين، من دون أن يحتقر الشعب ‏بالضرورة، "أكثر تعلّقاً بالوطن، والوطنية، وعبادة الأرض أو الزعيم".‏

وفيما لدى اليسار فكرة معينة عن الجمهورية، توجد لدى اليمين فكرة معينة عن فرنسا، والحديث هنا عن السياق ‏الفرنسي بالتحديد. اليسار يميل بشكل طوعي نحو البيروقراطية؛ بينما يميل اليمين نحو القومية، وكراهية الأجانب، ‏أو السلطوية. "ليس لدى اليسار واليمين الأحلام نفسها ولا المخاوف نفسها".‏

ويشير كونت-سبونفيل إلى أن اليسار يرفض الرأسمالية أو يتقبلها على مضض، ويثق بالدولة أكثر من السوق، ‏ويدعم التأميم بينما يتأسف على الخصخصة. على النقيض، يثق اليمين بالسوق أكثر من الدولة ويدعم الرأسمالية ‏بقوة، ويفضّل الخصخصة، ويدعم التأميم عند الضرورة فقط. بشكل عام، اليسار يميل إلى دولة الرفاهية والتخطيط، ‏بينما يميل اليمين إلى السوق والمنافسة.‏

وعلى الرغم من أن بعض الأفراد في اليسار يمكن أن يكونوا ليبراليين اقتصادياً، وبعض الأفراد في اليمين يمكن أن ‏يدعموا دور الدولة، يبقى الفرق الأساسي في توجهاتهم الاقتصادية واضحاً.‏

الفروقات الأخيرة بين اليسار واليمين تشمل القيم والسلوكيات. اليسار يركز على المساواة، الحرية الأخلاقية، الدفاع ‏عن الضعفاء، والتضامن، بينما اليمين يركز على نجاح الفرد، الجدارة، الحرية الاقتصادية، الدين، والوطنية. العدالة ‏عند اليسار تعني الإنصاف والمساواة الفعلية، بينما عند اليمين تعني المكافأة على المزايا الفردية.‏

ويذكر كونت-سبونفيل أن الفروقات الطبقية لا تزال تلعب دوراً كبيراً في الانتماء إلى كلا المعسكرين، حيث اليسار ‏يمثل الطبقات الشعبية. في المقابل، اليمين يجد دعمه بشكل أساسي بين المستقلين مثل الفلاحين وأصحاب الأعمال ‏الصغيرة الذين يمتلكون أدوات عملهم. وعلى الرغم من وجود تداخل بين الطبقات، تظل هذه الحدود واضحة. اليسار ‏يجذب الطبقات الفقيرة والعمال، بينما اليمين يجد دعمه بين البرجوازية والمديرين التنفيذيين وأصحاب المهن الحرة.‏

غير أن عدداً من المفكرين لاحظوا في السنوات الأخيرة تغيّراً في هذا المؤشر الاجتماعي، إذ يعيدون صعود اليمين ‏المتطرف في أوروبا إلى غضب الطبقات الفقيرة والمهمشين من ضحايا الاقتصاد النيوليبرالي في المدن الكبرى، ‏والذين يشعرون بأنهم متروكون في نظام الجدارة الذي يزداد شراسة.‏

ووفقاً لعالم السياسة جيروم فوركيه والكاتب جان لوران كاسلي في كتابهما "فرنسا تحت عيوننا"، فإن التفكك ‏الصناعي، وظهور "بروليتاريا جديدة من دون وعي طبقي"، وتعمق الفجوات بين "البوبو" (المنتمون إلى الطبقات ‏الوسطى من أبناء المدن وذوي الميول اليسارية والليبرالية) و"البوف" (رجال الطبقات الشعبية الذين يتسمون عامةً ‏بالابتذال وقلة الثقافة وضيق الأفق)، وعملية عزل المدن الصغيرة والمتوسطة، واختفاء الطبقة الوسطى تقريباً، ‏والتحولات الاجتماعية في فئة المعلمين تشكل جزءاً هاماً من "التحول الكبير" الحاصل لمصلحة صعود اليمين.‏

ثقافة "اليقظة" و"اليسار الإسلامي"‏

‏"عندما يسألني أحدهم عما إذا كان لا يزال هناك معنى للفصل بين الأحزاب اليمينية والأحزاب اليسارية، وبين ‏الأشخاص اليمينيين والأشخاص اليساريين، فإن الفكرة الأولى التي تخطر ببالي هي أن الشخص الذي يطرح هذا ‏السؤال بالتأكيد ليس شخصاً يسارياً"، كتب الفيلسوف والصحافي الفرنسي آلان عام 1930.‏

يقول مارسيل غوشيه إن ظهور حركات سياسية جديدة مثل التنظيمات البيئية أو الحركات الشعبوية يقلب الانقسام ‏التقليدي بين يمين يسار. ويعطي أمثلة على ذلك أن الحركات البيئية موجودة على طرفي الطيف في أوروبا، ولا ‏يقتصر حضورها على اليسار، بل هناك حركة بيئية يمينية بارزة لا سيما في ألمانيا. وفيما تتميّز الشعبويات ‏اليسارية بخطابها عن إعطاء الصوت إلى الشعب، تنطوي تطلعات اليمين الشعبوي في أوروبا على أفكار وقيم ‏قومية وهوياتية تتسم برهاب الأجانب.‏

وفي حين أن الميل اليساري غلب على فرنسا منذ عام 1815، يرى غوشيه أنه بعد عام 1945 "ثمة شيء قد ‏انكسر"، إذ لم تظهر بعد ذلك أي قوة جديدة على يسار الشيوعيين الذين حكموا بعد الحرب العالمية الثانية، حتى مع ‏‏"الفوز الثقافي" لليسار بعد احتجاجات 1968، غير أن الرقعة التي يتحرك عليها اليسار شهدت برأيه جموداً منذ ذلك ‏الحين.‏

ويرى أن اليمين بدأ يكسب المعركة شيئاً فشيئاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.‏

وفيما صاغ الناقد الأدبي ألبرت تيبودي مصطلحاً جديداً في فترة ما بين الحربين وهو "السينيستريسم" (من اللاتينية ‏‏"سينستر"، وتعني "اليسار") للإشارة إلى حركة استبدلت الأحزاب اليسارية بأخرى أكثر تطرفاً، والميل بشدة إلى ‏الأفكار والقيم اليسارية.‏

يذكر المؤرخ جيرار نوارييل، أن التحوّل نحو التقشف المالي في عام 1983 أدى إلى تقسيم اليسار الشعبي واليسار ‏المجتمعي الذي يهتم أكثر بمكافحة التمييز من مكافحة تجاوزات الرأسمالية.‏

ثم وصلت ثقافة "اليقظة" (‏Wokism‏) التي نشأت في الولايات المتحدة وتنامى الحديث عنها في السنوات القليلة ‏الماضية لوصف الأفراد والمجموعات المؤيدين للعدالة الاجتماعية. ورسخّت هذه الثقافة ما يعرف بـ"الحروب ‏الثقافية" وأثرت على شكل الاصطفافات والقيم والقضايا التي تهم طرفي الطيف السياسي.‏

وقد شهدت فرنسا في الأعوام القليلة الماضية، لا سيما في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، نقاشات حادة حول قضايا ‏مرتبطة بالإسلاموفوبيا والنسوية وقضايا مجتمع المثليين والعابرين جنسياً وما بعد الاستعمار، حتى أن من يصنّفون ‏أنفسهم كمناهضين لثقافة اليقظة، أطلقوا على مجموعات معيّنة في الأكاديميا والمجال العام اسم "اليسار الإسلامي" ‏بغية اختزال هؤلاء في هوية تتبنى أفكار يسارية وليبرالية وتتعاطف مع المسلمين والمهاجرين في فرنسا وأوروبا.‏

عند هذا الحد تساءل العديد من المفكرين عن تأثير هذه الثقافة ومن خلفها "سياسات الهوية" التي تركز على حقوق ‏الأقليّات، على أفكار اليسار ودوره.‏

وذهب بعض هؤلاء، مثل الفيلسوفة الفرنسية ستيفاني روزا إلى طرح سؤال مفاده "هل أصبح اليسار ضد التنوير؟" ‏وهو عنوان لكتاب لها أصدرته عام 2020.‏

وتشكك روزا في موقف اليسار الفرنسي اليوم من ثلاثة مبادئ رئيسية موروثة من هذه الفترة التاريخية: العقلانية، ‏والتقدمية، والكونية. وترى أن بعض مواقف اليسار، خصوصاً تلك التي تتبناها مجموعات مثل "فرنسا الأبية" بقيادة ‏جان لوك ميلانشون، قد تبدو وكأنها تنفصل عن إرث التنوير، بخاصة في مجال التعاطف والتضامن العالمي.‏

وترى مثلاً أن اليسار منقسم بعمق بين التقليد والتقدمية في القضايا الدينية، خصوصاً في ما يتعلق بالإسلام. وتقول ‏إن "سلطة تقاليد الشعوب هي فكرة يمينية في الأساس، لكننا نجدها اليوم موضع دفاع من قبل بعض الأطراف في ‏اليسار. هذا انقلاب متناقض".‏

وتنطلق من هنا لتشير إلى المكانة التي تحتلها الآن النقاشات حول الهوية مقارنةً بالاهتمامات الاجتماعية. وتقول: ‏‏"لقد توسع اليسار في المجال المتعلق بالحقوق الفردية. وإذا كانت هذه الحقوق ضرورية، فلا يجب أن تحتكر كل ‏اهتمامه، لأن الليبراليين أكثر استعداداً لهذا الدور. لذلك، ترك اليسار مجالاً كاملاً، ليس بالضرورة الضواحي الكبرى ‏ولكن بشكل عام ذلك المجال المتعلق بالسكّان المهمشين، المنفصلين عن المراكز، عن الوظائف وعن الوصول إلى ‏وسائل النقل".‏

وترى أنه يجب على اليسار مخاطبة الشعب الفرنسي خارج المدن الكبرى. وأنه يجب إعادة التوازن بين النضالات ‏في الدفاع عن حقوق الأقليات، التي تظل ضرورية، وبين حقوق العمل.‏

‏"مقاومة جديدة"‏

غداة فوز "التجمع الوطني" في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية بنسبة حوالي 33 بالمئة، تساءلت ‏الأديبة الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل، آني إرنو: "كيف وصلنا إلى هنا؟ 10 ملايين ناخب لحزب عنصري؟"، ‏وفيما ترى أن هؤلاء ليسوا بالضرورة كلهم عنصريين، "لكننا نعلم أنه لسنوات، منذ جان ماري لوبان، سُمح بنمو ‏الفكرة القائلة إن الهجرة هي المشكلة".‏

وتشير إرنو في مقابلة مع صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، إلى أن هذه الفكرة اكتسبت أهمية متزايدة مع استطلاعات ‏الرأي حول ما إذا كنت "تعتقد أن هناك الكثير من المهاجرين في فرنسا؟". وتقول إن وسائل الإعلام المهيمنة ‏شاركت في تصنيف الأجنبي "ككبش فداء" بشكل متكرر، حتى انتهى بها الأمر إلى إقناع المناطق الريفية بذلك على ‏وجه الخصوص، حيث لا يتواجد المهاجرون كثيراً.‏

وترى أنه يضاف إلى ذلك حملة تشويه سمعة اليسار، واستخدام الإسلاموفوبيا من خلال اتهام اليسار بمعاداة ‏السامية. هناك أيضاً تخلّي تدريجي عن العمال، مع الإغلاق المتتالي للمصانع الذي يغذي الشعور بالظلم الاجتماعي ‏وهو أساس تصويت للتجمع الوطني. وترى إرنو أن تدمير الخدمات العامة والمستشفيات والمدارس حقيقة يعاني ‏منها الجميع اليوم، وبخاصة المناطق الريفية. لكن "الخطأ هو الاعتقاد بأن التجمع الوطني لديه الحل".‏

من جهته، قال عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في مقابلة أجرتها معه الصحيفة نفسها في أعقاب نتائج الجولة ‏الأولى من الانتخابات الأخيرة، إننا "نعيش في عصر يتسم بانتصار الوهم والكذب، مما يشكل هزيمة كبيرة لفرنسا ‏وأوروبا والإنسانية".‏

ورأى الرجل الذي احتفل قبل أيام بعيد ميلاده الـ103، أنه "حان وقت المقاومة الجديدة". وتابع: "المقاومة قبل الأمس ‏كانت ضد الاحتلال النازي، ومقاومة الأمس كانت ضد عودة الوحشية القديمة المتمثلة بالكراهية والازدراء ‏والمرتبطة بالوحشية الجديدة المتمثلة بالحساب الأعمى والربح المتفلت".‏

ويضيف موران أن "المقاومة الجديدة هي في المقام الأول مقاومة للروح ضد الأكاذيب والأوهام والهستيريا ‏الجماعية التي يتسلّقها اليمين المتطرف في فرنسا وأوروبا. المقاومة الجديدة تتخذ جانب إيروس، قوة الإبداع، ضد ‏بوليموس وثاناتوس، قوة الحرب ونزعات الموت، وتسعى إلى إنقاذ الجنس البشري من نفسه".‏

جوي سليم.. بي بي سي نيوز


اضف تعليق