كربلاء المقدسة أنجبت واحتضنت أشهر أعلام التاريخ الشيعي فقد كانت ممراً ومقراً ومستقراً لفطاحل علماء الشيعة في العالم ومنها امتد العطاء العقائدي لينير دروب الإنسانية جمعاء.
ومن العلماء الذين تركوا الأثر الكبير في نفوس الكربلائيين بصورة خاصة وباقي المسلمين بصورة عامة سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي قدس سره الذي دخل التأريخ بحق من أوسع أبوابه إذ أنه أصبح من مشاهير الفقهاء الذين لا يمكن تجاوزهم أو تجاهلهم حين يبدأ الحديث عن الحوزة العلمية والعلماء.
لم يكن رجل دين قد تخصص في إصدار الأحكام الشرعية وانزوى في صومعة ليتفرغ للدراسة والمطالعة حسب بل كان يشارك المجتمع همومه في كل الجوانب الدينية منها والسياسية والاجتماعية. كان مدافعاً عن الحق وعن المذهب وعن مفاهيم العقيدة، سرعان ما يقف بجرأةٍ وصلابةٍ ويصدر فتواه بكل شجاعة حين يلمس أن البلد قد تعرض إلى غارة همجية يمكن أن تسلخ منه هويته الحقيقية.
فقد اشترك رحمه الله في ثورة العشرين وكذلك أفتى مع مجموعة من الفقهاء بضرورة طرد الإنجليز من العراق كان ذلك أبان حركة الجيش عام (1360هـ ، 1941م) ثم تصدى لأعتى وأخطر موجة دفعها أعداء الإسلام، وكان أول من بادر للتصدي لهذه الموجة، ألا وهي الموجة الشيوعية التي كانت تود سلب الهوية العقائدية من جيل تمسك بهويته واعتصم بحبل الله المتين، ثم جاءت موجة أخرى مشابهة لتلك الموجة لكنها تحمل عنوان القومية وتلك كانت أيام حكم عبد السلام عارف. ومن أجل الوقوف بوجه المنحرفين كي لا يجروا الناس للانحراف بحجة الحرية أو التعبير عن الرأي دون وضع حد معقول فقد اشترك مع السيد حسين القمي قدس سره عام 1360هـ ضد الحكومة الإيرانية وأصدر فتوى حينها أجبرت الحكومة على الرضوخ لمطالبه والسماح بارتداء الحجاب ومنع الاختلاط في المدارس وفرض تدريس الأحكام الشرعية في المدارس.
في كربلاء المقدسة:
ولد المرجع الديني آية الله العظمى الامام المقدس السيد مهدي الشيرازي في كربلاء الطهر والقداسة عام 1304هـ وبقي فيها مع والديه حتى اكمل السابعة من عمره الشريف وقد ارسله والده الى بعض الكتاتيب في صحن الامام الحسين عليه السلام قد تعلم مبادىء القراءة والكتابة.
في سامراء المشرفة:
ثم سافر بصحبة والده إلى سامراء حيث وقعت في كربلاء فتنة بين المحلات فخاف والده الجليل على أولاده، وفي سامراء اخذ يتلقى مبادئ العلوم من نحو وصرف ومنطق ومعاني وبيان وحساب وهندسة وغيرها، وقد عرف بين طلبة العلوم بجده ودرسه في التعلم والتعليم حتى ضرب المثل به، فكان ينام أبان اشتغاله في كثير من الأوقات ساعتين ونصف فقط في الليل والنهار وكان لا يفتر في ليل أو نهار عن المباحثة والمدارسة والمطالعة والحفظ، وحتى في أيام التعطيل.
وقد جد في الدرس حتى برع في الأدب واخذ ينظم الأشعار ويؤلف المقالات وقد قال رضوان الله عليه مرة انه مع كثرة ما درس المغني والمطول حفظ اكثرهما وكان أخريات أيام حياته يقرأ بعض عبارات هذين الكتابين.
كما حفظ القرآن الكريم ومقامات الحريري وألفية ابن مالك والتهذيب في المنطق والجزري في التجويد ومتن الشاطبي وشطراً من متن المطول وقد تتلمذ في فن التجويد على المقرئ السيد حسين الهندي رضوان الله عليه وكان يقول عنه انه كان نادرة في الذكاء والعلم وحسن الصوت وكان طبيباً حاذقاً.
وفي سامراء أيضاً درس الحساب والهندسة والتفسير والأخلاق والتجويد والجفر والطلسمات والدراية والحديث والرجال والهيئة.
في الكاظمية المقدسة:
ثم هاجر الراحل في أيام حصار الإنكليز للكوت إلى الكاظمية بإشارة من الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي قدس سره حيث أنه خاف أن تصبح سامراء كالكوت فقد حاصر الإنكليز الكوت مدة طويلة حتى أصابها مجاعة وأكلوا فيها الحمير ومات كثير منهم من الجوع ثم فتحوها عنوة وعملوا فيها أبشع أنواع الإجرام فخاف الميرزا رضوان الله عليه عن أن ينالوا من سامراء بمثل ذلك ويهلك البقية الصالحة من أهل العلم وعترة الميرزا المجدد الكبير فهاجر هو قدس سره وأمر بالهجرة، فجاء الراحل بعائلة أبيه المشتملة على أمه وبعض أخواته وإخوانه إلى الكاظمية المقدسة وبقي هناك بما يقرب من سنة ونصف وأصيبوا هناك بالقحط: قال قدس سره فكنا نأكل في مدة مديدة تقترب من ثلاثة أشهر التمر الزهدي والقثاء المعروف بخيار شنبر.
وإشتغل مدة كونه في الكاظمية بالدرس والبحث والحفظ، ثم سافر من الكاظمية إلى كربلاء المقدسة وصحب الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس سره واشترك في الثورة التي نشبت بأمر الميرزا رضوان الله عليه ضد الإنكليز.
الراحل في النجف الاشرف:
ثم سافر إلى النجف الاشرف بإلجاء الظروف التي حالت بينه وبين الاستفادة من محضر أستاذه الميرزا قدس سره وهناك إشتغل بالعلم والعمل والزهد والعبادة وأقبل على تكميل النفس وتحليتها بالفضائل:
فكان يحضر دروس الميرزا النائيني الشيخ محمد حسين والآقا الشيخ ضياء الدين العراقي. يشترك في البحث الكمباني للسيد الميرزا المجدد رضوان الله عليه ويباحث مع آية الله السيد ميرزا عبد الهادي الشيرازي قدس سره.
وهذه هي المرة الثانية التي يحضر الراحل دروس النجف الاشرف.
العودة إلى كربلاء المقدسة:
وبعد ما رجع الراحل إلى النجف الاشرف ومضت مدة، اضطربت الظروف عليه وقست فقد مات عميد الطائفة وملجأها آية الله السيد ميرزا علي أغا الشيرازي قدس سره وركبت الراحل ديون كثيرة بحيث ترك المرور في بعض الأسواق خجلاً من أصحاب الديون.
وكان يقول رضوان الله عليه: ربما لم أكن أجد مصرفاً لغداء أو عشاء ولا أتمكن حتى من الدين فكنت أرجع إلى البيت وأشتغل بالمطالعة متوكلاً على الله تعالى، فيفرج الله عني حيث أنقطع إليه سبحانه وأضيف على هذه الأمور أن المرحوم آية الله الحاج آغا حسين القمي طاب ثراه بإلحاح مهاجرة الراحل إلى كربلاء المقدسة فلبى الطلب وحين ذاك أرسل القمي قدس سره بعض الخدمة لاكتراء السيارة لأجل هجرة الراحل مع أهله فسافر بهم حيث أوصلهم إلى كربلاء المقدسة.
وفي كربلاء أخذ الراحل في التدريس وحضر البحث الكمباني لآية الله القمي قدس سره وجرت الامور في مجاريها: بحوث ودروس منظمة وزهادة وعبادة وتمكن الراحل رضوان الله عليه في كربلاء المقدسة من سد بعض ديونه التي ركبته في النجف الاشرف.
السيد الراحل يقوم بأعباء الرئاسة:
بعد أن أصيب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى القمي في النجف الاشرف بمرض خطير اضطر للسفر إلى بغداد للمعالجة حيث وافاه الأجل المحتوم وحين ذاك تبعثرت رئاسة الشيعة بين أفراد كان الراحل أحدهم فألتف حوله الطلاب في كربلاء المقدسة وأخذ هو قدس سره في تنظيم الحوزة العلمية وشرع في درسين: الفقه صباحاً، والأصول ليلاً وكان منهاجه في الدراسة سهلاً ممتعاً .. فقد كان يعنّون المسألة ولا يذكر في الخلاف إلا ما يفيد ثم يبين نظره ويذكر الأدلة له ويتعرض إلى ذكر أدلة الطرف الثاني من دون تسطير لما يعرف فساده أو تكديس لدلالة المذكور في المسألة إذا كان بعضها بمعزل عن التحقيق وكان بالإضافة إلى ذلك سريع السير، بالنسبة إلى البحوث الخارجية المتداولة في هذه الأزمنة.
فقد درّس في هذه المدة ـ أي بين انتقال الزعامة إلى حين وفاته ـ مما يقرب من 13 سنة من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج والمكاسب والخمس والاعتكاف بالإضافة إلى درس الأصول.
وفي الثامن و العشرين من شعبان المعظم 1380هـ لبى نداء ربه عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً ودفن في الحرم الحسيني الشريف وقد خرجت لتشييعه جماهير كربلاء المقدسة عن بكرة أبيها بالإضافة لمن توجه من المدن الأخرى فكان تشييعاً مهيباً. انتهى/خ.
اضف تعليق