في مطلع العام الجديد، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون في خطابٍ ألقاه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا التي تهدف لتعزيز التبادل التجاري مع القارة والاستثمارات الأمريكية فيها، ومواجهة الإرهاب وتهدئة الصراعات، ومتابعة إنفاق المساعدات الأمريكية.
وفي الوقت نفسه، هاجم بولتون استراتيجية الصين تجاه أفريقيا، وتعهَّد بالرد عليها ردًا حاسمًا. وهو الأمر الذي يوضح بحسب تقريرٍ لمجلة فورين أفيرز الأمريكية أنَّ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في جوهرها لا تتعلق بأفريقيا، وإنَّما بمواجهة الصين.
تتفق المجلة في تقريرها مع شعور أمريكا بالقلق من الدبلوماسية الصينية في أفريقيا. لكنَّها ترى أنَّ تلك الاستراتيجية الجديدة ستفشل في تحقيق غرضها، إذ تركز على التهديد الصيني التجاري، بينما تركز الصين على بناء علاقاتٍ طويلة الأجل مع القارة، وليس فقط التجارة والبنية التحتية.
التحدي الصيني
تشير المجلة إلى أنَّه وفقًا لشركة ماكينزي للاستشارات، تعمل أكثر من 10 آلاف شركة صينية في الوقت الحالي في أفريقيا، وتجني هذه الشركات ما يصل إلى 180 مليار دولار أمريكي سنويًا. وتنمو الاستثمارات الصينية في القارة بمعدلٍ سريع، إذ زادت بأكثر من الضعف في 2016. وفي 2009، أصبحت الصين هي الشريك التجاري الأكبر للقارة.
ويعتمد جزءٌ من استراتيجية الصين حسبما أوضحت المجلة على إقراض الدول الأفريقية مبالغ ضخمة من المال بشروطٍ غامضة، ما يمنحها نفوذًا أكبر على حكومات تلك الدول. لكنَّ المجلة لا تتفق مع الرؤية الأمريكية التي تعتقد في شر النشاط التجاري الصيني كله، إذ ترى أنَّه في حالاتٍ كثيرة، هذه الاستثمارات الصينية تحفز معدلات النمو في أفريقيا بتوفير رأس المال والبنية التحتية الذين تحتاجهما القارة. فوفقًا للبنك الأفريقي للتنمية، تحتاج الدول الأفريقية إلى زيادة استثماراتها بضخ من 68 إلى 108 مليار دولار كل عام لتحفيز النمو، وتحتاج تلك الدول أيضًا لتوفير فرص عمل كافية لسكانها الذين يتزايد عددهم كل عام.
أمَّا في ما يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية تجاه القارة، فتقول المجلة إنَّ إدارة ترامب كانت هائمةً طوال السنتين الماضيتين. إذ لم تنخرط مع زعماء أفريقيا بما يكفي، ولم تتحرك سريعًا لشغل المناصب الشاغرة المعنية بشؤون بالقارة في الإدارة الأمريكية، هذا بالإضافة إلى التخفيض الكبير في ميزانية البيت الأبيض المخصصة للوكالات المسؤولة عن تطبيق سياسة الولايات المتحدة في أفريقيا.
لكنَّ احتمالية تفوُّق الاستثمارات الصينية على نظيرتها الأمريكية دفعت إدارة ترامب للتحرُّك. فوفقًا للمجلة، وقَّع الرئيس الأمريكي تشريعًا اتفق عليه الحزبان لاستحداث مؤسسة تمويل تنموية جديدة برأس مال 60 مليار دولار أمريكي لدعم الشركات الأمريكية في القارة وخارجها.
ترى المجلة أنَّه بينما قد تكون هذه المؤسسة إرثًا مهمًا لإدارة ترامب، لكن في الوقت نفسه، وبقدر أهمية الاستثمارات الأمريكية في أفريقيا، فإنَّ واشنطن لا ينبغي لها أن ترى النشاط الصيني في القارة من منظور الاقتصاد فقط. فبكين تُعمِّق أيضًا علاقاتها السياسية والثقافية والعسكرية مع القارة. إذ يلتقي الحزب الشيوعي الصيني بأعضاء معظم الأحزاب الحاكمة في أفريقيا. وتستضيف الصين عددًا من طلاب الجامعة الأفارقة أكبر من الولايات المتحدة، وتدير نحو 50 مؤسسةً في القارة لتدريس الثقافتين الماندرينية والصينية، وتستثمر مليارات الدولارات لتوسعة نشاط وسائل الإعلام الإخبارية التي تديرها الحكومة الصينية. هذا بالإضافة إلى زيادة مبيعات الأسلحة الصينية، وزيادة التعاون العسكري في مجال التدريب، وإسهام الصين بشكلٍ أكبر في بعثات حفظ السلام، وتأسيس قاعدةٍ عسكرية صينية في جيبوتي.
أشار بولتون لهذه القاعدة بالفعل في خطابه، إذ تقع على بعد أميالٍ فقط من أهم قاعدةٍ عسكرية أمريكية في أفريقيا. لكنَّه أغفل استراتيجية الصين الأوسع لبناء علاقاتٍ أطول أمدًا مع القارة، وما سيمنحها ذلك من نفوذ. وتعتقد «فورين أفيرز» أنَّ هذه النظرة الضيقة للعلاقات الأفريقية الأمريكية جعلت من الصعب على الولايات المتحدة توفير بديلٍ جذاب للصين، ما جعل زعماء القارة يرحبون بالاهتمام والمال الصينيين. وتضيف المجلة أنَّ الولايات المتحدة ينبغي لها تحديد مواقفها تجاه القارة والمبادئ التي تدعمها، بدلًا من أن تنبني استراتيجيتها فقط على ما تُعارضه من هيمنةٍ صينية في أفريقيا. فالجوانب الإيجابية لاستراتيجية بولتون الجديدة تتمحور حول منافسة الصين، وتقتصر فقط على تعميق علاقات التجارة والاستثمار، على عكس استراتيجيات الإدارات السابقة التي سعت لتدعيم المؤسسات الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، ومكافحة الأمراض، ودعم القادة الشباب الواعدين.
لقاءٌ عام 2015 بين الرئيس الأمريكي السابق أوباما ونظرائه في ليبيريا وغينيا وسيراليون لمناقشة تقدم جهود مكافحة فيروس الإيبولا وتنمية اقتصادات القارة.
وبحسب المجلة، النظر للعلاقات مع أفريقيا في إطار المنافسة الصينية الأمريكية لن تؤدي إلَّا إلى تنفير زعماء أفريقيا من التعامل مع الولايات المتحدة، إذ سيشعرون أنَّهم بيادق في صراعٍ بين قوتين عالميتين، وبهذا سيميلون أكثر إلى كفة الصين بشعاراتها عن الاحترام المتبادل واستفادة الطرفين.
وتضيف المجلة أيضًا أنَّ تحقيق الأهداف المحدودة لإدارة ترامب التي ذكرها خطاب بولتون سيحتاج إلى أكثر مما تبدو الإدارة مستعدةً لتقديمه، وأنَّه من الصعب التعامل مع إدارة ترامب بجدية في ظل سجلها السيئ حتى الآن تجاه أفريقيا، الذي تضمَّن تقليل الإنفاق على برامج التبادل، والإشارة لعددٍ من الدول الأفريقية بالسوء، والتهديد بتخفيض ميزانيات عددٍ كبير من برامج المساعدات. وهذا التعامل مع القارة ترك مساحةً كبيرة لزيادة النفوذ الصيني.
أهمية أفريقيا
ترى المجلة أنَّ الولايات المتحدة ينبغي لها وضع استراتيجيةٍ أفضل للتعامل مع أفريقيا، للسبب ذاته الذي يدفع الصين لتعزيز علاقاتها مع القارة، وهو التزايد السريع للنفوذ السياسي والاقتصادي الأفريقي في العالم.
فمواطنو القارة أغلبهم من الشباب، وبحلول عام 2050 ستمثل أفريقيا نحو ربع سكان العالم وقوته العاملة. وبعض الاقتصادات في القارة تنمو بمعدلاتٍ سريعة للغاية، ولهذا من المتوقع أن يزداد إجمالي الإنفاق التجاري والاستهلاكي السنوي في أفريقيا إلى 6.7 تريليون دولار بحلول عام 2030. ما سيزيد على المدى الطويل من اعتماد الاقتصاد الأمريكي على نجاح المشروعات الأمريكية في القارة، وزيادة اهتمام المستهلكين الأفارقة بشراء البضائع والخدمات الأمريكية.
وتعتقد فورين أفيرز أنَّ الدول الأفريقية يمكن أن تكون مفيدةً للولايات المتحدة على المستوى السياسي أيضًا، إذ يمكنها المساعدة في وقف تمويل الجماعات المسلحة، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وتطبيق العقوبات على كوريا الشمالية، التي ترتبط بعلاقاتٍ اقتصادية مع حوالي 25 دولة في أفريقيا. وفي هذا الصدد، تستخدم الصين بالفعل علاقاتها مع أفريقيا لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية، مثل عزل تايوان والتصويت ضد قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان في بكين.
وتخلُص المجلة في النهاية إلى أنَّ الولايات المتحدة لن تنجح في هزيمة الصين في تلك اللعبة، حتى وإن حاولت شن حملةٍ اقتصادية سياسية ثقافية واسعة مثلها. وترى أنَّ الحل هو أن تُميز أمريكا نفسها عن الصين بأن تدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الاقتصادية، فهذا فقط هو ما سيُقنع أفريقيا بأنَّ الولايات المتحدة هي الحليف الأفضل. وهذه القيم أيضًا ستساعد الولايات المتحدة في منافسة الصين اقتصاديًا، لأنَّ الطريقة التي تُدار بها الدول هي ما يشكل اقتصادها.
اضف تعليق