لن يكون الممول الأميركي الثري جيفري إبشتاين، الذي اتهم باستغلال عدد من القاصرات جنسياً، مضطراً لقضاء ما تبقى من عمره خلف القضبان الحديد، أو أن يواجه من اتهموه باستغلالهنّ جنسياً. كما لن يكون في حاجة للكشف عمن شاركوه أو ساعدوه في هذه الجرائم التي هزّت المجتمع الأميركي.
انتحر إبشتاين أو قُتل، النتيجة واحدة. لكن النهاية الغريبة التي انتهت بها حياته في واحدة من أكثر القضايا جدلاً في الولايات المتحدة فتحت باباً واسعاً من التكهنات والشكوك لن ينغلق بعد أيام وربما أشهر. فنزاهة القضاء الأميركي أصبحت على المحك بعدما تبين لضحايا إبشتاين ولعدد كبير من الأميركيين أن ميزان العدالة أصبح يميل بقوة لمصلحة الأغنياء وأصحاب النفوذ والنخبة.
قتل أم انتحار؟
وفيما تقول السلطات إن إبشتاين شنق نفسه، إلا أن هناك ما يثير العديد من الهواجس والشكوك حول هذه النهاية. ذلك أن المتهم الذي وضع على قوائم مراقبة الانتحار بعد اكتشاف جروح في رقبته في 23 يوليو (تموز) الماضي، رُفِعَ اسمه فجأة ومن دون سبب واضح من قائمة مراقبة الانتحار، التي تفرض على حراسه في السجن المرور عليه بشكل دوري كل ربع ساعة للاطمئنان على سلامته الجسدية.
لكن القضية التي فتحت ملفات عديدة قبل أسابيع قليلة وأدت إلى استقالة وزير العمل في حكومة الرئيس دونالد ترمب وتداولت في صفحاتها أسماء مهمة من أصحاب النفوذ والمال مثل الرئيس السابق بيل كلينتون والأمير البريطاني أندرو دوق يورك وليزلي واكستر صاحب سلسلة محال "فيكتوريا سيكريت" وغيرهم، أظهرت عمق الروابط بين الحكومة والسياسة والعلوم والأزياء، وأثارت تساؤلات عن الأسرار التي سيحملها إبشتاين إلى قبره، فضلاً عن الشكوك الواسعة بشأن مدى احترام حكم القانون في الولايات المتحدة.
علاقات قوية بنجوم المجتمع
ويشير البعض إلى أن وفاة إبشتاين كانت مطلوبة من كثيرين حتى بافتراض أنها كانت انتحاراً. ونظرة سريعة على الأسماء المتداولة في القضية وشبكة علاقاته الممتدة من سياسيين إلى أمراء ومشاهير ورجال أعمال، تكفي كي تستشعر حجم الأخطار التي تحيق بأطراف عدة. فقبل أسابيع نفى الرئيس السابق بيل كلينتون ما رددته وسائل إعلام عن أنه استخدم طائرة إبشتاين الخاصة التي تحمل اسم "لوليتا إكسبريس" 27 مرة، بعضها كان بصحبة رجال الخدمة السرية المخصصة لحماية الرؤساء السابقين، وبعضها من دونهم، قائلاً إنه استخدم الطائرة أربع مرات فقط برفقة الخدمة السرية دائماً. لكن سجلات الطائرة تؤكد 27 رحلة. كما أن كلينتون امتدح إبشتاين وأعماله الخيرية في مقابلات صحافية منشورة. وكشفت شبكة "إيه بي سي" أن إبشتاين قدم تبرعات وإسهامات كبيرة للديمقراطيين في نيويورك ودفع 20 ألف دولار إلى هيلاري كلينتون خلال ترشحها لانتخابات مجلس الشيوخ عام 1999.
كما أن الرئيس ترامب نفى في البداية معرفته بالمتهم، إلا أن الإعلام الأميركي كشف عن أن إبشتاين زار ترمب مرتين في منتجع "مار ألاغو" في بالم بيتش عامي 1997 و2000، حيث التقطت صوراً لهما في المناسبتين.
أما الأمير أندرو دوق يورك، فتعود علاقته بإبشتاين إلى فترة التسعينيات حيث شوهد كلاهما في حفلات في سانت تروبيز في تايلاند. لكن قصر باكنغهام الملكي في لندن ينفي الادعاء بأنه كانت هناك تصرفات غير مقبولة من قبل الأمير أندرو.
وارتبط المتهم أيضاً بليزلي واكستر، صاحب سلسلة محال "فيكتوريا سيكريت" الشهيرة، والذي استأجر إبشتاين عام 1991 ليدير أمواله ومنحه صلاحيات واسعة حتى جنى أكثر من 200 مليون دولار من هذا الاتفاق.
من الفقر إلى الثراء
على الرغم من أن جميع من عرفوا إبشتاين وارتبطوا به تنصلوا من علاقتهم به بشكل أو آخر إلا أن حياة إبشتاين فتحت كثيراً من التساؤلات التي طاولت الجميع.
ولد إبشتاين في يناير (كانون الثاني) 1953 لأبوين من الطبقة العاملة في جزيرة كوني في نيويورك، ولم يكن أحد يتوقع أن يبلغ إبشتاين هذا القدر من الثروة والنجاح بصعوده السريع حتى أصبح مديراً مالياً في بورصة وول ستريت. لكنه حينما بلغ الـ 40 من عمره، عاش في واحدة من أكبر المساكن الخاصة في مانهاتن بنيويورك بمساحة 21 ألف قدم مربع بارتفاع سبعة طوابق، ثم امتلك جزيرتين خاصتين في جزر فيرجن.
ووفقاً لسجلات الأصول العقارية التي قدمها محاميه خلال استجواباته الأخيرة أمام المحكمة، امتلك مزرعة ضخمة على مساحة 100 ألف فدان في ولاية نيو مكسيكو، إضافة إلى منزل فاخر آخر في بالم بيتش بولاية فلوريدا.
الاستغلال الجنسي
كشفت حركة "مي تو"، التي تدافع عن حقوق المرأة بخاصة الاتهامات بالتحرش والانتهاكات الجنسية، عن كم هائل من الادعاءات المتعلقة بانتهاك حقوق النساء من رجال ذوي نفوذ، منها ادعاءات بانتهاك جنسي ضد فتيات قاصرات في منازله بمنهاتن وبالم بيتش ونيو مكسيكو باستخدام مدفوعات نقدية لتشكيل شبكة واسعة من الضحايا القاصرات بعضهنّ في عمر 14 سنة.
وقد وجدت الشرطة الأميركية في منزله بعد اعتقاله صوراً لفتيات عاريات قاصرات، فضلاً عن جواز سفر نمساوي منتهي الصلاحية وعليه صورة المتهم ولكن باسم شخص آخر. وهو ما جعل المحققين يشتبهون في أن جواز السفر كان يستهدف الهروب من العدالة، في حين أن محاميه ادعى أن إبشتاين رجل ثري ويهودي الديانة ما يجعله ربما هدفاً للاختطاف ولهذا كان يحمل جواز سفر مزيفاً ليخدع به الخاطفين.
بداية المشكلات
بدأت مشكلات إبشتاين عام 2005 حينما أبلغت سيدة شرطة بالم بيتش أن ابنتها الطالبة في المرحلة الثانوية (14 سنة) تعرضت لاعتداء جنسي من إبشتاين. ومنذ ذلك الحين، واجه إبشتاين على مدى ثلاثة أعوام تهماً فيدرالية من 53 صفحة تضمنت اتهامات بجرائم جنسية صاغها محققو مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) وكانت تكفي لأن يمضي ما تبقى من عمره في السجن.
لكن إبشتاين أمضى 13 شهراً فقط من حكم بسجنه 18 شهراً في سجن المقاطعة، بعدما توصل إلى صفقة مع مكتب المدعي الأميركي في ميامي والذي قاده ألكساندر أكوستا وزير العمل في إدارة ترمب، الذي استقال قبل أيام فقط بسبب الانتقادات المثارة ضده حول القضية.
صفقة مشينة
تنصّ صفقة الاتفاق الذي تجري مراجعته الآن في وزارة العدل، على إقرار إبشتاين بالذنب في تهمتين تتعلقان بالدعارة في الولاية، بما يجنبه الخضوع إلى أي اتهامات فيدرالية، بل منحه الاتفاق حصانة من أي ادعاءات فيدرالية أخرى. وبهذا تمكن إبشتاين من وضع نهاية لتحقيق فيدرالي جارٍ من "إف بي أي"، فيما إذا كان هناك ضحايا آخرون يمكن أن تضم قضاياهم إلى التحقيق. كما أغلق الباب أمام إمكان التحقيق في ما إذا كان عدد من أصحاب النفوذ شاركوا في جرائم مع إبشتاين.
وسمحت له السلطات في بالم بيتش خلال فترة اعتقاله بمغادرة سجن المقاطعة ليمارس عمله مدة 12 ساعة في اليوم ولمدة ستة أيام في الأسبوع.
أُبرم الاتفاق سراً، في وقت أعلن ضحايا إبشتاين أن تفاصيل الاتفاق لم يُكشف عنها لمدة عام، وهو ما يمثل انتهاكاً واضحاً لقانون حقوق ضحايا الجرائم لسنة 2004 والذي يضمن لضحايا الجرائم حق معرفة تطورات قضيتهم.
في 3 يوليو (تموز) 2019، قررت محكمة استئناف أميركية الإفراج عن وثائق محكمة اتُهم فيها إبشتاين بالاتجار بالجنس رفعتها فيرجينيا غوفري ضد غيزيل ماكسويل، صديقة إبشتاين وعشيقته السابقة، حيث اتهمتها بالقذف وتسهيل اعتداء إبشتاين عليها جنسياً منذ عام 1999 وحتى 2002. وعلى الرغم من نفي ماكسويل إدعاءات غوفري علانية، وفي ملفات المحكمة باعتبارها اتهامات كاذبة، إلا أن إبشتاين أجرى تسوية خاصة مع غوفري عام 2009 حول قضية منفصلة زعمت فيها انتهاكها واستغلالها جنسياً من قبل إبشتاين وعدد من أصدقائه الذكور ومنهم أمراء وسياسيون وأكاديميون ورجال أعمال، وهو ما كشفت عنه أوراق المحكمة لاحقاً.
وبعد 7 يوليو، اعتُقل إبشتاين فور وصوله من فرنسا إلى نيوجيرسي، حيث وجه إليه المدعون في اليوم التالي مباشرة اتهامات بالاستغلال الجنسي لعشرات من الفتيات القاصرات بين عامي 2002 و2005 ودفع أموال نقدية لتجنيد ضحايا قاصرات في شبكة واسعة للاتجار بالجنس، على الرغم من أن عدداً منهنّ كان في الـ 14 من العمر.
وفي 9 يوليو، تحدثت فتاتان من ضحايا إبشتاين، هما كورتني وايلد وميشيل ليكاتا، في مقابلة حصرية مع شبكة "إيه بي سي" عن تجربتهما المريرة وكيف أنهما تتألمان حتى الآن على الرغم من مرور سنوات على هذه الحوادث.
على الرغم من وفاة إبشتاين منتحراً أو مقتولاً ومطالبة وزير العدل وليم بار بفتح تحقيقين لمعرفة ملابسات الوفاة، إلا أن ضحايا إبشتاين يطالبون جهات التحقيق والادعاء بالاستمرار في ملاحقة أي شخص ساعد إبشتاين على ارتكاب جرائم الجنس ليلقى العقاب العادل.
اضف تعليق