كربلاء- وكالة النبأ
لطالما شكلت الحواس الخمس في حياة الإنسان مصدرًا لا غنى عنه لإدراك جمال الكون، وخصوصًا في شهر رمضان المبارك حيث يزداد التواصل الروحي بين الأفراد والمجتمع ومن هذه الحواس، تتألق ذاكرة الكربلائيين بذكريات لا تُنسى عن "المسحرجي"، الشخصية التراثية التي كانت تتجول في شوارع المدينة ليلاً حاملًا طبلته وصوته الذي يتردد من نافذة إلى أخرى، مُعلنًا عن موعد السحور.
المسحرجي ذاكرة كربلائية حية
تُعد شخصية المسحرجي جزءًا لا يتجزأ من الموروث الشعبي في كربلاء، تلك المدينة التي لطالما احتفظت بطابعها الخاص، على الرغم من تأثيرات الحداثة والتطور التكنولوجي.
يقول الأديب علي الخباز، "إن صورة المسحرجي لا تزال حاضرة في قلوب الكربلائيين، وخاصة كبار السن الذين عاصروا تلك الأيام".
ويسترجع الخباز تفاصيل هذه الشخصية قائلاً: "منذ الأربعينيات، كان المسحرجي، الذي يُعرف في بعض الأحيان بـ"أبو طبل"، يجوب الأزقة بعد أن يعود الناس من الزيارة الليلية في الصحن الشريف، في تلك الأوقات، كانت أضواء المنازل تقتصر على الخافت منها، وكان الليل يغمر المدينة في سكون تام، إلا من صوته الذي يقطع هذا السكون مناديًا: حي على السحور".
عاشور الأعمى رمز الطيبة والتواصل
يذكر الأديب الخباز شخصية "عاشور الأعمى"، وهو أحد أبرز المسحرجية الذين ارتبطت بهم الذاكرة الكربلائية، ويقول: "كان عاشور شخصية محبوبة من الجميع. فحتى أولئك الذين ينامون سريعًا ويسألون في اليوم التالي إن كان 'عاشور الأعمى' قد مرّ في الشارع، كانوا يتذكرون صوته ونبرته الخاصة التي لا يمكن أن يخطئها أحد".
عاشور الأعمى لم يكن مجرد مسحرجي يمر في الشوارع فحسب، بل كان ذا مكانة خاصة في قلوب الأهالي، الذين كانوا يقدمون له العيديات والحلوى مع حلول أول أيام العيد.
مهنة متوارثة بلا مقابل
العديد من المسحرجية في كربلاء، ومنهم "عاشور الأعمى"، قد امتهنوا هذه المهنة عن طريق الوراثة، حيث كان الأجداد يمارسون هذا التقليد كجزء من العادات الرمضانية المتأصلة في المجتمع الكربلائي.
وقد أشار الخباز إلى، أن هذه المهنة كانت تُمارس دون أي مقابل مادي، إذ كان المسحرجي يتلقى العيديات والهدايا من الأهالي في يوم العيد، في إشارة إلى التقدير الكبير الذي كان يحظى به هذا التقليد الشعبي.
الرمزية الثقافية للمسحرجي
في إطار الحديث عن التراث الثقافي، يوضح الخباز أن المسحرجي ليس مجرد مهنة أو تقليد، بل هو رمز من رموز التواصل الاجتماعي والترابط العائلي في كربلاء،"إن وجود المسحرجي في شهر رمضان كان يشكل نوعًا من الارتباط الروحي بين أفراد المدينة، فهو ليس مجرد وسيلة لإيقاظ الناس للسحور، بل كان بمثابة حلقة وصل بين الأجيال السابقة والأجيال الجديدة، مُحافظًا على عادات وتقاليد فريدة".
ومع انتشار وسائل الاتصال الحديثة، أصبح التقليد القديم في كثير من الأحيان غير قابل للتطبيق بنفس الطريقة، لكن ذكرى المسحرجي لا تزال حية في قلب كل كربلائي، ويستذكرها الجيل الجديد بحنين وافتخار.
ورغم تقدم الزمن، إلا أن هذا الطقس الرمضاني العريق يظل شاهدًا على ارتباط أهالي كربلاء بتاريخهم وثقافتهم.
يبقى المسحرجي جزءًا من ذاكرة كربلاء الرمضانية، ويؤكد الخباز أن "وجوده في رمضان، على الرغم من التغيرات الاجتماعية والتقنية، يظل رسالة حية حول أهمية الحفاظ على الموروث الشعبي الذي يعكس هوية المدينة ويعزز الترابط بين أجيالها".
م.ال
اضف تعليق