تعدّ البيئة الغنية بالمياه المكان المناسب لتربية الجاموس باعتبار طبيعة جسمه، لا سيّما خلال الصيف، لذا تنتشر تربيته قرب الأنهار ومناطق الأهوار الشاسعة في العراق التي كانت منذ قرون طويلة موطناً لهذا الحيوان.

وتتغذى الأهوار من نهري دجلة والفرات، لكن خفض تركيا وإيران منسوب المياه، قلص كثيراً المساحات المغمورة بالمياه في هذه المناطق التي تتأثر أيضاً بانخفاض معدل هطول الأمطار.

وحدّد أحدث إحصاء أصدرته وزارة الزراعة العراقية في عام 2023، عدد الجواميس بأكثر 462 ألفاً، ما يمثل نحو نصف عددها قبل 40 عاماً.

ويقول خبير الأحياء البرية عبد الستار الحيالي : "ليس الجاموس مثل الماشية الأخرى لأنه لا يستطيع أن يعيش بعيداً عن الماء، ويحتاج إلى الغطس يومياً للحفاظ على حرارة جسمه المرتفعة، الجفاف يعني تدهور صحة الجاموس، وربما نفوقه، شاهدنا الجاموس يغرق في الوحل بعد جفاف مناطق الأهوار، لأنه لا يستطيع الوقوف على اليابسة طويلاً. وهو وسيلة رزق لأعداد هائلة من السكان، سواء من يربونه أو من ينتفعون بصناعة وتجارة منتجاته من حليب وقيمر".

ويرى الناشط البيئي خالد الكبيسي أن "ما يحصل اليوم يتجاوز حدود الأزمة البيئية إلى كارثة ثقافية واجتماعية"، ويؤكد، أن "تاريخ بلاد الرافدين يشير إلى أن الجاموس جزء من الحياة. نجده في النقوش القديمة والحكايات والموروث الشعبي. إنه أكثر من مجرد حيوان، فهو صديق. وإننا نخسر بسبب الجفاف والإهمال وعدم وجود سياسات جدية لحماية البيئية حيواناً ارتبط بأجيال من المزارعين والمربين. نخسر نمط حياة بكامله".

وبالنسبة إلى البعض ليس الجاموس مجرد حيوان يُربّى، بل جزء من هوية جنوب العراق، ورمز للخصب والعطاء، لذا يسعى هواة الطبيعة إلى توثيق هذا الحيوان في صور فوتوغرافية تساهم في إيصال الكارثة التي يتعرض لها. يبدي المصور محمد مصطفى، قلقه من الحال الذي وصل إليه هذا الحيوان، ويقول: "ما نشهده اليوم مرعب. نرى كيف يموت الجاموس بصمت ومعه ذاكرة وحكايات لن تعود".

ويؤكد مصطفى الذي يوثّق الحياة البرية في جنوب العراق، أن "أهمية الجاموس لا تقتصر على فائدته، فجماله وحجمه وقوته وشكله صنع له حضوراً طاغياً جعل عدسات المصورين تركّز عليه. أكثر الصور التي يلتقطها المصورون في مناطق الأهوار وتنال تفاعلاً واسعاً هي للجواميس، لا سيّما وهي تسبح أو تغطس في الأهوار في أوقات محدّدة مثل الشروق أو الغروب".

أيضاً ليس الجاموس الحيوان الذي يجلب لمربيه المنافع والأرباح، بل هو أحد رموز منطقة شاسعة وهوية لا يمكن إهمالها، بحسب ما يقول أحمد عبد الناصر، وهو مرشد سياحي يصف الجاموس بأنه "أيقونة" لمنطقة الأهوار.

ويلفت إلى أنّ "الجاموس يمثل مشهداً نادراً يشدّ السياح وهو يسبح في المياه داخل الأهوار، خاصة عندما يغطس كل جسمه ويُظهر من فوق المياه فقط رأسه وقرنَيه. بعض السياح الأجانب يطلبون مني أن أرافقهم لالتقاط صور للجواميس، فهم يندهشون من هذا الكائن، ومن طريقة عيشه وارتباطه بالناس. يقول كثيرون إن الجاموس هو أكثر ما يميز الأهوار العراقية عن بيئات أخرى".

وفي يوليو/ تموز 2016 أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) مناطق الأهوار في لائحة التراث العالمي، ما يشير إلى أهمية ما تحتويه هذه البيئة من حياة برية يعدّ الجاموس أحد أبرز عناصرها.

يقول مربّي الجواميس كاظم مرهج (63 سنة): "اضطررت أخيراً إلى بيع 20 رأساً من الجاموس، وأودعت 41 أخرى لدى أحد أقاربي المربين في أهوار محافظة الناصرية (جنوب). كنت أربي أكثر من 100 رأس جاموس قبل سبعة أعوام، نفق بعضها وبعت أخرى بعدما تراجعت مناسيب المياه وجفت الأنهار، وقد تنقلت مع قطيع جواميسي في مناطق عدّة لمحاولة الحفاظ عليها لكن الأمر لم يعد يحتمل معاناة أكثر".

أما فاضل ضهد (46 سنة) الذي أنهى عمله في تربية الجواميس قبل سنتين فيقول: "زاولت المهنة منذ صغري حين كنت أسكن في الريف، لكن الاستمرار فيها يعني تتالي الخسائر بسبب الجفاف وارتفاع تكلفة تربية هذا الحيوان وعلاجه وغذائه"، ويبقي ضهد صوراً تجمعه مع "أصيلة" و"كمرة" و"ياسمينة" و"الأميرة" وهي أسماء لجواميسه، ويقول: "أتصفح دائماً صور جواميسي في الهاتف. لن أنسى أجمل أيام عمري".

المصدر: العربي الجديد

ع ع

اضف تعليق