لم يكن المساء في قلعة وندسور عادياً؛ فهناك، حيث تتعانق الأساطير الملكية مع أدق تفاصيل البروتوكول، نصبت بريطانيا مائدتها الأطول والأبهى لاستقبال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
المأدبة الرسمية، التي تُعد ذروة أي زيارة دولة، جاءت بمثابة عرض سياسي على مسرح ملكي، حيث تتداخل الرسائل الدبلوماسية مع أطباق فاخرة وأصوات الأبواق ومشاهد تحاكي ولائم العصور الوسطى.
داخل قاعة سانت جورج، جلست 160 شخصية على طاولة تمتد 47 متراً، وقد رُصّت أمام كل ضيف خمس كؤوس بترتيب عسكري الدقة، فيما أحاطت بهم 1,452 قطعة من أدوات المائدة اللامعة.
الزهور الحمراء والوردية ازدانت بين الشمعدانات الذهبية، لتمنح القاعة مزيجاً من الرقي الأوروبي وروح "هاري بوتر" السينمائية.
القائمة، المكتوبة بالفرنسية، لم تكن أقل فخامة: بانا كوتا الجرجير مع بسكويت البارميزان وبيض السمان، تليها دجاج نورفولك العضوي بصلصة الزعتر، وصولاً إلى قبة آيس كريم الفانيلا المحشوة بسوربيه التوت من كِنت.
أما النبيذ فحمل توقيع مزارع أوروبية وأمريكية مختارة بعناية، فيما اختتمت الوليمة بزجاجة بورت من عام 1945، في إشارة رمزية إلى كون ترامب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، رغم امتناعه عن الكحول.
لكن المائدة لم تخلُ من رسائل سياسية؛ فترتيب الجلوس كان أشبه بصفحة شطرنج محسوبة.
الرئيس ترامب جلس بين الملك تشارلز وكاثرين أميرة ويلز، بينما جلس إلى جوار ابنته تيفاني رئيس "آبل" تيم كوك، في وقت كان إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ يتبادل المقاعد مع مستشار رئيس الوزراء البريطاني.
ومن بين الحضور برزت أسماء وزراء بريطانيين وأمريكيين، ورؤساء شركات تكنولوجيا، ومسؤولين ماليين نافذين، في غياب شبه تام لنجوم الفن والرياضة باستثناء وجوه محدودة مثل لاعب الغولف نِك فالدو.
الموسيقى عزفت على وتر السياسة أيضاً؛ إذ اختيرت مقطوعات من بينها "لا أحد ينام" و"لا يمكنك دائماً الحصول على ما تريد"، في تلميحات لم تغب عن أعين الصحافة الأمريكية.
وبينما تبادل الحاضرون الأنخاب – أو اكتفوا برفع الكؤوس – بدت الوليمة وكأنها مزيج من استعراض ملكي ورسالة بريطانية عن مكانة لندن في ميزان العلاقات عبر الأطلسي.
في النهاية، لم تكن مأدبة وندسور مجرد عشاء فخم، بل مشهداً مسرحياً مكتملاً، حيث التقت أدوات الذهب والكريستال مع حسابات السياسة والسلطة، لتصوغ بريطانيا لوحة أرادت أن تظل عالقة في ذاكرة ضيفها المثير للجدل.
م.ال
اضف تعليق