قبل ثلاثة آلاف سنة، بدأت صناعة الحرير تأخذ طريقها من الصين إلى أرجاء العالم. ليس الحرير وحده بالطبع، وإنما تسربت معه بضائع كثيرة ما لبث انتقالها من الصين وأقاصي آسيا إلى أواسط آسيا وشمال أفريقيا ووسط أوروبا أن اتخذ مسارات محددة، عُرفت منذ الزمن القديم باسم "طريق الحرير".
مع قدوم زعيم الحزب الشيوعي الصيني "ماو تسي تونغ" (1893-1976) حاولت الصين إعادة إحياء طريق الحرير، لكن الظروف في القرن العشرين لم تشجع على إعادة تدشين الطريق –البري والبحري- الذي لا تزال معالمه صامدة حتى اليوم.
واصلت الحكومات الشيوعية المتعاقبة بعد ماو تسي تونغ بناء الدولة اقتصاديا إلى أن جاء الرئيس الصيني الحالي "شي جين بينغ" في مارس/آذر 2013 ليعزز سلطته، ويبسط سيطرته على الحزب الشيوعي الحاكم، وتصبح أفكاره جزءا من دستور البلاد.
ويبدو أن شي جين بينغ يسعى إلى تخليد اسمه في تاريخ الصين الشعبية، فبعد أشهر قليلة من توليه الرئاسة أعلن عن إطلاق مبادرة "الحزام والطريق" ليعيد إحياء فكرة "طريق الحرير" مرة أخرى والتي ينوي بها الربط بين الصين وباقي دول العالم.
ووقعت الصين، أمس السبت، اتفاقات تتجاوز قيمتها 64 مليار دولار في قمة "مبادرة الحزام والطريق" والتي تعرف أيضاً باسم "طريق الحرير الجديد"، المشروع الصيني العملاق الذي تريد بكين به تسويق المبادرة التي ستجعلها محوراً للعلاقات الاقتصادية العالمية.
لماذا طريق الحرير؟
هذا الاسم استعمله لأول مرة جغرافي ألماني عام 1877 لأن المنسوجات الحريرية التي كانت الصين تحتكر تجارتها تمثل النسبة الأكبر من التجارة عبر هذا الطريق البري، والذي ظلت تسلكه القوافل التجارية حتى القرن السادس عشر عندما استُبدل بالطريق البحري.
وكان لطريق الحرير تأثير كبير في ازدهار كثير من الحضارات القديمة، مثل الصينية والمصرية والهندية والرومانية، كما لعب هذا الطريق دورا في تلاقي الثقافات والشعوب وتعلم لغات وتقاليد البلدان التي توجد على مساره.
وفي العام 2014، وُضع قسم منه على "لائحة التراث العالمي لليونسكو"، وشمل الجزء الذي يمر عبر ثلاث دول هي الصين وكزاخستان وأوزبكستان على مسافة 5000 كلم.
ومن أبرز المدن التي ارتبطت بطريق الحرير "سمرقند" في أوزبكستان؛ المدينة الأسطورية التي مر منها ملايين التجار، وأيضا الحجاج والمحاربين خلال أكثر من 2000 سنة، ولا تزال بصماتهم واضحة على معالم المدينة إلى يومنا هذا.
الدفع الى فخ الديون
الهدف من الخطة والتي تبلغ كلفتها 900 بليون دولار، كما أوضحت الصين، هو إضفاء "عصر جديد من العولمة"، وعصر ذهبي للتجارة يستفيد منه الجميع، وتقول بكين إنها "ستقدم في نهاية المطاف ما يصل إلى 8 تريليونات دولار للبنية التحتية في 68 بلداً".
تسعى الصين بهذه المبادرة إلى إنشاء طرق وممرات تجارية تربط أكثر من 68 دولة وتشكل هذه الدول مجتمعة 65 % من سكان العالم، وتنتج نحو 40 % من الإنتاج العالمي.
وأسست الصين صندوقاً استثمارياً برأس مال بمليارات الدولارات لتمويل المشاريع، التي جاءت بعنوان "طريق واحد وحزام واحد"، ليكون الطريق "طريقاً للسلام ولم الشمل والتجارة الحرة".
وتتلقى المبادرة تمويلاً بواسطة استثمارات وقروض بمئات مليارات اليورو، لكن منتقديها، و على رأسهم واشنطن، والهند، واليابان، يأخذون عليها أنها تدعم خاصةً الشركات الصينية وتشكل "فخ ديون" للدول المستفيدة منها وتضر بالبيئة.
ورغم أن مشروع الحزام والطريق انطلق لربط الصين بأوروبا فإنه اتسع وتجاوز حدود أوراسيا ليضم أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، ومنطقة الكاريبي، ومنطقة جنوب الباسيفيك، وحتى يوليو (تموز) 2018، وقعت أكثر من 100 دولة ومنظمة دولية وثائق تعاون مع الصين فى إطار مبادرة الحزام والطريق.
ونفذ 28 مشروعاً في عدة دول مختلفة باستثمارات تبلغ 5.4 مليارات دولار، كما بنيت شبكة كبيرة من خطوط السكك الحديدية في إطار المبادرة التي وصلت إلى 4 آلاف خط يربط بين الصين ودول آسيوية وأوروبية، وتخطت الاستثمارات الأجنبية بين دول الصين ودول المبادرة 70 مليار دولار.
وفي 2017 بدأت الصّين تجني أرباح هذه المبادرة، فارتفعت صادراتها إلى دول المسارين، الحزام والطريق بنسبة 16%، ونمت وارداتها 27%.
بين الحزام والطريق
طريق الحرير في صيغته الجديدة يتعدى طوله 10 آلاف كيلومتر وينقسم إلى جزأين: الأول سمي ''بالحزام'' وهو عبارة عن طريق بري، والثاني "الطريق" هو الجزء البحري من المشروع.
وتشمل مبادرة "الحزام" إتمام الممر الذي يصل آسيا بأوروبا عبر ثلاثة محاور تجارية رئيسية؛ الأول يبدأ من مدينة "شيان" مسقط رأس الرئيس الصيني في الشرق، مروراً "بتشانغ يانغ" في شمال غرب الصين وعاصمتها "أروموتشي" ليقطع دول وسط آسيا ثم روسيا وانتهاء بـ"روتردام" بهولندا.
أما المحور الثاني فيبدأ من مدينة "شانغهاي" متجها جنوباً إلى وسط آسيا فباكستان والهند نحو إيران ثم تركيا وينتهي في وسط أوروبا.
أما مبادرة "الطريق" فتركز على بناء روابط بين الموانئ الرئيسية، وتبدأ من مدينة فوتشو شرق الصين عبر المحيط الهندي، ثم البحر الأحمر وقناة السويس واليونان وتنتهي في إيطاليا.
وتشمل المشاريع مد أنابيب للغاز الطبيعي والنفط، وتشييد شبكات من الطرق وسكك الحديد وبنى تحتية بحرية ومد خطوط للطاقة الكهربائية والإنترنت، وهو ما يعزز اتصال الصين بالقارة الأوروبية.
وستتطلب هذه الاستثمارات أموالا ضخمة تفوق التريليون دولار، وسيتم توفيرها بالأساس عبر "بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية"، وبنك دول "بريكس"، وصندوق طريق الحرير، بالإضافة إلى مساهمات الشركات الصينية.
لا مكان للحمائية
حضّ الرئيس الصيني، خلال القمة التي حضرها نحو أربعين رئيس دولة وحكومة بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، على رفض الحمائية، في إشارة إلى ممارسات الولايات المتحدة الأميركية، داعيا المزيد من الدول إلى الانضمام للمبادرة.
وتسعى الصين، الغارقة منذ 2018، في حرب تجارية مع الولايات المتحدة، إلى تولي دور الزعامة في مجال التعاون متعدد الأطراف.
وتهدف المبادرة إلى إقامة بنى تحتية للنقل والطاقة في الدول التي هي بحاجة ماسة إليها في آسيا وأوروبا وأفريقيا ومناطق أخرى.
والمبادرة التي أطلقها الرئيس الصيني عام 2013، تلقى تمويلا بواسطة استثمارات وقروض بمئات مليارات اليورو. لكن منتقديها يأخذون عليها أنها تدعم خصوصا الشركات الصينية وتشكل "فخ ديون" للدول المستفيدة منها وتضر بالبيئة.
ووفق محافظ البنك المركزي الصيني، يي قانغ، يوم الخميس الماضي، فإن المقرضين الصينيين قدموا 440 مليار دولار لتمويل مشاريع الحزام والطريق
وشككت الولايات المتحدة والهند واليابان ومعظم دول غرب أوروبا في نوايا الصين من وراء هذه المبادرة. لكن بكين حاولت نزع فتيل التوترات مع المشاركين في المبادرة، من خلال إعادة التفاوض بشأن الديون أو تقديم تنازلات أخرى.
وأعلنت الحكومة الإثيوبية، يوم الأربعاء الماضي، أن الصين شطبت أقساط الفوائد المستحقة على الدولة الواقعة شمال شرق أفريقيا حتى نهاية عام 2018.
وقال الرئيس الصيني للمشاركين في القمة: "علينا أن نشجع على مشاركة المزيد من الدول والشركات، لزيادة مصالحنا المشتركة".
ومنذ أن اقترح الرئيس الصيني المبادرة قبل ست سنوات، وقّعت 126 دولة و29 منظمة دولية وثائق تعاون مع الصين في إطار المبادرة، وفق وكالة الأنباء الصينية "شينخوا".
وسجلت بكين إنجازا دبلوماسيا لمصلحتها، في مارس/آذار، عندما وقّعت إيطاليا على المبادرة، وهي عضو في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى.
اين الولايات المتحدة؟
في العام 2017 هددَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب كوريا الديمقراطية ومن على منبرِ الأمم المتحدة بتدميرها بالكامل إذا ما اضطرت الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها أو عن حلفائها، يومها لم يكن الكلام موجهاً لكوريا الديمقراطية كدولةٍ مستقلة بل لما تمثله هذه الدولة.
يقول الكاتب فراس عزيز ديب، "كان هدف ترامب رفع سقف التوتر في شبهِ الجزيرة الكورية إلى أعلى الدرجات بما فيها المواجهة المباشرة، لأنه يدرك أن السلام الذي تعيشه المنطقة هناك هو أحد أهم أسباب الصعود الصاروخي للصين، لكنه اصطدم يومها بهدوءٍ صيني يثير الإعجاب ورفضٍ مبطن من قبلِ حلفائه في كوريا الجنوبية واليابان خوضَ حربِ الآخرين، فكان البديل عملياً محاولةَ استمالة الزعيم الكوري الديمقراطي كيم جونغ أون برفع راية الدعوة للمفاوضات والتي فيما يبدو فشلت فشلاً ذريعاً ليتجسدَ هذا الفشل بالزيارة الأخيرة التي قام بها كيم جونغ أون إلى روسيا والكلام المتبادل بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أهمية الحفاظ على نقاط القوة بما فيها البرنامج النووي للحفاظ على سيادة الدول".
ويضيف "هكذا تجاوزت الفكرة التي يعمل عليها الصينيون المطب الأول، لكن هذا المطب حكماً لن يكونَ الأخير تحديداً أنها ليست مجرد ربطٍ للبحار الخمسة أو تحويل عددٍ من الدول إلى تكتلٍ اقتصادي، بل الفكرة بالأساس تقوم على فرضية إطفاء النيران المشتعلة حولَ العالم بسلاحِ التطور والانتعاش الاقتصادي، إذ إن كلفة المشروع المقدرة بثمانية تريليونات دولار تبدو ضخمة وبحاجة لاستقطاب كبار رؤوس الأموال، والأهم أنها بحاجةٍ إلى نوع من الرخاء الأمني الذي سينتُج عنه رخاء اقتصادي وليس العكس، لكن المطب هنا أن من لا يزال يتحكم بتلك النيران المشتعلة يرى فيها سلاحاً بديلاً لوأدِ هذا المشروع من جديد، أما المطب الأخير فهي فكرة وجود القائد وبمعنى آخر: إن بناء التحالفات أساساً يعتمد على وجود قائدٍ، ربما ما ساعد الولايات المتحدة على إكمال التحكم بحلفائها أنهم مسلمون بفكرة وجودها كقائدٍ لديه بالنهاية كلمة الفصل، هذا الأمر تجلى عبر العقود الماضية من تبعيةٍ عمياء لكن هنا يبدو الظرف مختلفاً، أنت تريد أن تبني تحالفاً من المتناقضات فمن سيقود هذا المشروع هل هم الروس أم الصينيون؟ دون أن ننسى مثلاً أن دولاً ناشئة كإيران وتركيا يقدمون أنفسهم كلاعبين دوليين، لكن بالمطلق تبدو هذه الأسئلة سهلةً".
فمنذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب للبيت الأبيض واستخدامه لمصطلح "الحرب التجارية" مع الصين زادت حدة القلق من الصراع الصيني-الأميركي واحتمالات تحوله لمواجهة مسلحة. صحيح أن الإعلام الأمريكي يركز أكثر على روسيا بسبب ادعاءات تدخّلها لصالح ترامب في الانتخابات الرئاسية، لكن كبار المسؤولين في الإدارة والبنتاغون يعتبرون الصين الخطر الأبرز على الهيمنة الأميركية.
فالصين قصة مختلفة تماماً، لضخامة اقتصادها وتنوّعه وتنامي قوتها التكنولوجية بصورة متسارعة ومشروع "الحزام والطريق" الدولي الذي تبنيه شركاتها وقواتها العسكرية التي تزداد وتصبح أكثر حداثة بصورة مذهلة، كل هذه عناصر قد تمكن الصين من مضاهاة أو التفوق على الولايات المتحدة كقوة عالمية مسيطرة، وهذا ما لن تسمح به واشنطن، وهنا بالتحديد مكمن الخطر في أن تتحول الحرب التجارية إلى مواجهة مسلحة، بحسب تقرير بعنوان «الولايات المتحدة بالفعل في حالة حرب مع الصين".
ورغم أن "واشنطن بوست" نشرت تقريراً ألقت فيه الضوء على التراجع الكبير في النمو الاقتصادي للصين عام 2018 واصفة إياه بأنه الأسوأ منذ 1990، مما جعل بكين تقلل من توقعاتها للنمو هذا العام، وكانت أبرز أسباب ذلك التراجع الحرب التجارية مع أميركا، مضيفة أنه على المستثمرين أن يتعودوا على فكرة أن الصين لن تكون قادرة على إنعاش الاقتصاد العالمي بسبب متاعبها الكثيرة داخلياً.
كيف يمكن أن ترد الصين؟
ويري بعض المراقبين أن استمرار الحرب التجارية من جانب إدارة ترامب ربما يأتي بنتائج عكسية؛ حيث ستجد بكين نفسها بين شقَّي الرحى، فمن ناحية يخشى زعماء الحزب الشيوعي الصيني من حدوث قلاقل اجتماعية تداخلية بسبب تراجع الاقتصاد نتيجة للإجراءات الأمريكية وهو خط أحمر لبكين؛ حيث إن الحفاظ على التماسك الداخلي هو الغاية الأهم لهم، ومن ناحية أخرى فإن سياسة ترامب التصادمية تجارياً تقوِّي المتشددين داخل الحزب والجيش، مما قد يؤدي لوقوع المحظور.
يأتي في هذا السياق قرار ترامب بفرض رسوم بقيمة 60 مليار دولار على الواردات الصينية في مايو/أيار 2018 ورفعها في سبتمبر/أيلول إلى 200 مليار بهدف إصلاح الميزان التجاري بين البلدين الذي يميل بشدة لصالح بكين وفي نفس الوقت حماية الاقتصاد الأمريكي مما وصفه ترامب "بالسلوك الشرير" للصين.
لكن النظر في مطالب الوفد التجاري الأمريكي للمفاوضين الصينيين يوضح أن هدف واشنطن الرئيسي ليس حماية اقتصادها بقدر ما هو عرقلة نمو الاقتصاد الصيني.
سيناريو الحرب؟
لكن على الرغم من التوترات المتزايدة هناك رأي آخر يرى أن واشنطن وبكين لن تصلا إلى مواجهة عسكرية بسبب الظروف الداخلية لدى كل منهما، فالصين سوف تتجنب أي حرب عسكرية مع الولايات المتحدة؛ لأن عصب سياستها الحالية قائم على الحفاظ على الاستقرار الداخلي.
فقادة الحزب مهووسون بالاستقرار الاجتماعي في بلد يقطنه نحو ربع سكان الكرة الأرضية، وذلك منذ احتجاجات ميدان تياننمين التي كادت تعصف بالحزب؛ لذلك يضع الجميع وعلى رأسهم زي ينغ بينغ الاستقرار الاجتماعي على رأس أهدافهم رغم أي اعتبارات أخرى.
هذه الاعتبارات تضعف من احتمالات الدخول في مواجهة مسلحة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والأمر نفسه ينطبق على الجانب الأمريكي؛ حيث إن العنصر الحاسم في الانتخابات الرئاسية منذ عقود هو الاقتصاد، وبالتالي فإن هدف ترامب الحفاظ على قوة الاقتصاد الأمريكي الحالية، وبالتأكيد الدخول في حرب مع الصين لن يفيد.
اضف تعليق