يكتسب "منتدى الحضارات العريقة" -الذي تحتضن العاصمة العراقية بغداد فعاليات النسخة السادسة منه- أهمية خاصة، لما يمتلكه العراق من إرث حضاري فريد في المنطقة والعالم.
ويأتي ملتقى الحضارات هذا العام برئاسة العراق وضيافته -الذي افتتح أمس الأحد الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري- ليكون حلقة مهمة ضمن سلسلة مبادرات السياسة الخارجية العراقية المستندة إلى الحضارة بوصفها قوة ناعمة تعول عليها الحكومة العراقية.
أهداف متعددة
ويقول المتحدث الرسمي لمنتدى الحضارات العريقة بنسخته السادسة الدكتور أحمد الصحاف إن هذا المنتدى يجمع 10 دول هي صاحبة الحضارات العريقة في العالم.
ويمثل العراق حضارات وادي الرافدين، فيما تمثل اليونان الحضارة اليونانية، والصين الحضارة الصينية القديمة، ومصر الحضارة الفرعونية، وإيران حضارة بلاد فارس، والمكسيك حضارة المايا، وإيطاليا الحضارة الرومانية، وبوليفيا وبيرو حضارة الإنكا، وأرمينيا حضارة الأورارتو.
ويضيف الصحاف أن لهذه النسخة أهدافا متعددة، في مقدمتها تسليط الضوء على المبادئ التي سيركز العراق عليها، وهي استرداد الآثار العراقية المنهوبة، وسيكون هذا المؤتمر نسخة مطورة لدبلوماسية ناعمة تشكل مسارا جماعيا يهدف إلى التأكيد على التنوع الثقافي والحضاري والمنجز الإنساني، ويبعث رسالة سلام ومحبة إلى دول العالم.
ويشير إلى أن دبلوماسية استرداد الآثار بدأت منذ أكثر من عامين، ونجحت وزارة الخارجية في إعادة ما يزيد على 18 ألف قطعة أثرية من مختلف دول العالم، ويركز المنتدى على قضايا محورية وجوهرية، في مقدمتها دعم المسارات الجماعية التي تهدف إلى تبادل الخبرات وتعزيز السياحة الحضارية والثقافية بين هذه البلدان.
ويحرص المنتدى -بحسب الصحاف- على أن يصبح منصة متقدمة لبرمجيات واقعية تهدف إلى تطوير القدرات والقابليات للكوادر الوطنية، ولا سيما أن هذا المحور بالتحديد هو ما سيطرحه العراق ويستند عليه في هذه النسخة.
ويشير الصحاف إلى أن البلدان العشرة المجتمعة تشكل ما يقارب 40% من سكان العالم، واقتصاداتها متنوعة، إضافة إلى تنوع مدارسها الحضارية والثقافية.
رسائل ودلالات
وبشأن مفهوم شعار المنتدى هذا العام، يوضح الصحاف أنه يحمل 10 علامات مسمارية تمثل الدول العشر التي اجتمعت في بغداد، وتشكيل هذه العلامات المسمارية أخذ شكل الشمس بوصفها أهم معلم يشكل عنصرا مشتركا بين هذه الحضارات العالمية العريقة في هذه الدول.
ويضيف أن هذه العلامات المسمارية بوصفها الدالة الأولى للكتابة وصناعة الحرف التي انطلقت من أرض سومر وبابل، وأن هذه الحروف المسمارية كلها تشير إلى الشمس بوصفها مصدر الانبثاق والإشعاع والبناء الإنساني والحضاري والثقافي في مجمل المعالم الحضارية والآثارية لهذه الدول.
ويعتبر أن هذا المنتدى تأسس عام 2017، وهو مبادرة يونانية تستند إلى الارتكاز على الجانب الحضاري والثقافي في هذه البلدان العشرة، والعراق إذ يطور أجندة المنتدى بنسخته السادسة فإنه يرى أن الإرث الحضاري والتعدد الثقافي والتاريخي سيكون رافعة للجهود الدولية من أجل البناء على الفرص الممكنة والمشتركة بين هذه الدول.
البلدان العشرة المشاركة تشكل نحو 40% من سكان العالم وفيها مدارس حضارية وثقافية متنوعة (منتدى الحضارات العريقة)
ويكشف المتحدث الرسمي عن عدد من الوسائل الحديثة التي اتبعتها اللجنة الإعلامية لمنتدى الحضارات العريقة من خلال "المبادرة بتصوير 51 موقعا حضاريا وتاريخيا في العراق، وأنتجنا المواد الفنية والوثائقية والفواصل الإعلامية التي تتضمن التعريف بالمعالم الحضارية والتاريخية في العراق، وكذلك في جميع الدول التي ستشارك في هذا المنتدى".
تراث ميزوبوتاميا
بدوره، يعتقد الدكتور سعد سلوم مؤسس معهد دراسات التنوع الديني والمنسق العام لمؤسسة مسارات أن أهمية هذا المنتدى تكمن في إحياء فكرة تراث ميزوبوتاميا العظيم، وهو تراث لم يتبع من حيث المبدأ أي جماعة دينية أو عرقية، ويمثل تراثا مشتركا لجميع العراقيين.
ويرى سلوم أنه لا يمكن لأي مشروع لوطنية عراقية جديدة في ضوء انقسام العراقيين في الحاضر إلا أن ينطلق على أساس ميثولوجي عظيم، وهو الاشتراك في التراث الغني لميزوبوتاميا وأوروك (بلاد ما بين النهرين)، وهو تراث قائم على الفخر اللازم لصناعة أي هوية لا تستثني من حيث المبدأ أي جماعة دينية أو قومية أو عرقية.٠
ويشير إلى أن ما حدث في العراق من طمس وتدمير للثقافة والحضارة في السنوات الماضية هو جزء من حرب الإبادة ضد الهوية العراقية، وهي جريمة تستهدف الحلقة الأخيرة التي تجمع العراقيين، حيث إن استهداف الماضي الغني في ضوء فقر الحاضر بالنسبة للعراقيين والانقسام الشديد في ظله يستهدف آخر حلقة يمكن من خلالها تأسيس "وطنية عراقية" مستمدة من تراث ما بين النهرين، لذا فإن أهمية المنتدى تكمن في تعزيز هذا الإحساس بأهمية تراث الرافدين القديم والعريق.
ويشدد سلوم على أهمية دور المجتمع الدولي وتحمله مسؤولية حماية التراث التعددي للعراق، لأنه في النهاية هو ليس تراثا عراقيا فحسب، بل هو تراث يخص الحضارة الإنسانية، وفقدانه خسارة للبشرية بشكل عام.
ويعتقد أن المنتدى ينبغي ألا يكتفي بالمطالبة باسترداد الآثار المنهوبة وغيرها، وإنما يذكر المجتمع الدولي بأن العراق ليس مجرد دولة موجودة في منطقة تقاطعات وصراعات إقليمية، وإنما هو مركز حضاري أسوة بالحضارات العريقة، ولا بد لهذا المركز أن يسترد دوره العالمي.
ويضيف أن العراق منطقة تقاطعات حضارية امتزجت جميعا بتكوين هذا التراث التعددي الغني، وليست منطقة تصالح إقليمية وتوازنات سياسية ظرفية.
تاريخ حضارات العراق
وتشكلت بدايات ملامح حضارة وادي الرافدين على ضفاف نهري دجلة والفرات قبل ما يقارب 12 ألف سنة قبل الميلاد، لتظهر أولى تلك الحضارات -وهي الحضارة السومرية- في 5000 قبل الميلاد، ثم ظهرت حضارات، أبرزها الأكدية والآشورية والبابلية.
من جهته، يقول أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة بغداد الدكتور مزهر الخفاجي إن السومريين سكنوا بلاد الرافدين منذ الألف الخامس قبل الميلاد، وأسسوا نظاما سياسيا دينيا كان فيه الملك هو الحاكم الكاهن وهو صاحب السلطتين الدينية والتشريعية.
وأضاف أن السومريين استمروا في "كفاحهم البشري فأسسوا مدنهم الأولى مثل أريدو وكيش وغيرها من المدن، ليعيش العراق نظام دولة سياسية مركزية واحدة لكنها مستقلة إداريا".
ويبين الخفاجي -للجزيرة نت- أنه في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد تمكن البابليون على يد جدهم "سومو آبو" من تأسيس مملكة بابل، وشكلوا الهجرة الجزرية الثانية لبلاد الرافدين، حيث استطاعت هذه الدولة أن تنشئ 3 منظومات سياسية، الأولى أنها استطاعت توحيد البلاد على يد ملك واحد، والثانية استطاعت حكم البلاد على قانون واحد وهو قانون حمورابي، والثالثة أدخلت نظام الخدمة العسكرية، بمعنى أن الدولة أصبحت ذات سلطة سياسية وتشريعية وعسكرية واحدة.
ويضيف الخفاجي "لكن الآشوريين استطاعوا في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد السيطرة على شمال بلاد الرافدين بعد الهجرة الجزرية الثالثة وتأسيس مملكتهم دولة بلاد آشور العظيمة، وعاشت بلاد الرافدين أوج عظمتها، وسيطرت دولتها القوية على 3 أرباع الشرق الأدنى القديم".
ومع حلول سنة 628 قبل الميلاد جاءت الموجة الجزرية الرابعة وتأسست مملكة بابل الحديثة على يد الكلدانيين في الألف الأول قبل الميلاد، وكانت عاصمتهم بابل وأشهر ملوكهم الملك نبوخذ نصر، واستطاعت بابل أن تزدهر وتمتد، لكنها واجهت شكلا من أشكال المحاصرة وربما التآمر من خلال امتداد العيلاميين بالتعاون مع بعض بقايا اليهود، فاستطاعوا أن يدخلوا بابل ويسيطروا عليها.
اضف تعليق