يبدو أن التريليونات من الميكروبات التي تعيش داخل أمعاء الإنسان أكثر تأثيراً مما كان يعتقد العلماء سابقاً. فقد كشفت دراسة جديدة من جامعة هاواي في هونولولو بالولايات المتحدة الأميركية، عن أن هذه الكائنات المجهرية يمكن أن تتحكم في طريقة تشغيل ووقف جيناتنا، الأمر الذي قد يغيّر فهمنا للصحة والشيخوخة والأمراض.
عندما تلتقي الميكروبات مع الجينات
نُشرت الدراسة في المجلة الدولية لعلوم الجزيئات «International Journal of Molecular Sciences» في 5 سبتمبر (أيلول) 2025، وركّزت على كيفية تفاعل الميكروبيوم المعوي، وهو مجتمع من البكتيريا والفيروسات والفطريات داخل الجهاز الهضمي، مع الجينات البشرية من خلال عملية تُعرف باسم علم التخلّق (epigenetics)، أي التعديلات الكيميائية التي تؤثر على نشاط الجينات دون تغيير تسلسل الحمض النووي نفسه.
تعمل هذه التعديلات مثل مَثْيَلَة (methylation) الحمض النووي (DNA) أو الحمض الريبي (RNA) كمفاتيح تشغيل أو وقف تتحكم في متى وكيف تُعبَّر الجينات عن نفسها.
المَثْيَلَة في الكيمياء هي عملية إضافة مجموعة ميثيل التي تحل فيها مجموعة ميثيل مكان ذرة هيدروجين في الجزيء المستهدف - ويكيبيديا.
• حوار متبادل داخل الأمعاء: قال البروفسور أليكا ماوناكيا، من قسم العلوم الحيوية الجزيئية والهندسة الحيوية بجامعة هاواي والمؤلف المشارك للدراسة، إنه من خلال فهم كيفية تأثير الميكروبات على جيناتنا يمكننا تخيّل طرق جديدة للوقاية من الأمراض وتعزيز الصحة والاقتراب أكثر من الطب الشخصي.
وتوضح الدراسة أن العلاقة بين الإنسان وميكروباته المعوية هي طريق ذو اتجاهين؛ فالعوامل اليومية مثل النظام الغذائي والضغط النفسي والأدوية والتقدّم في العمر تؤثر على نوع الميكروبات التي تزدهر في الأمعاء، فيما تفرز هذه الميكروبات مركّبات تؤثر بدورها في نشاط الجينات المرتبطة بالمناعة والتمثيل الغذائي وصحة الدماغ.
• إعادة رسم خريطة الصحة: قد تفسّر هذه التفاعلات الدقيقة سبب قابلية بعض الأشخاص للإصابة بأمراض أو حالات مرتبطة بالشيخوخة أكثر من غيرهم.
ويرى العلماء أن فهم هذا الحوار بين الجينات والميكروبات قد يفتح الباب أمام علاجات جديدة تستهدف كلاً من الخلايا البشرية والميكروبات التي تؤثر فيها.
ومن بين التطبيقات المستقبلية المحتملة: العلامات الحيوية الميكروبية، وهي مؤشرات بيولوجية محددة تُستخدم لتحديد وتتبع الكائنات الدقيقة في بيئات مختلفة لاكتشاف مؤشرات مبكرة على الأمراض، والعلاجات الحية (Live biotherapeutics)، وهي بكتيريا مفيدة تُستخدم دواءً.
وكذلك زراعة الميكروبات البرازية المحسّنة لنقل ميكروبات صحية من متبرعين إلى المرضى لاستعادة التوازن الميكروبي.
التكنولوجيا تلتقي مع علم الأحياء
تسهم تقنيات متقدمة؛ مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل الخلايا المفردة، في تسريع هذا المجال؛ إذ تتيح للعلماء رسم خريطة التفاعلات المعقدة بين الجينات البشرية والمجتمعات الميكروبية بدقة غير مسبوقة.
• العلم والتقدّم بمسؤولية وعدالة: يحذّر الباحثون من أن التقدّم العلمي يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع المسؤولية الأخلاقية. ومع ازدياد أهمية بيانات الميكروبيوم يؤكد العلماء ضرورة اعتماد أطر ومعايير تضمن استخدام البيانات بعدالة مثل مبادئ FAIR ومبادئ CARE. وباختصار تهدف هذه المبادئ إلى ضمان أن العلم يخدم الناس جميعاً، وأن التقدّم في أبحاث الميكروبيوم والجينات يتم بطريقة عادلة ومسؤولة تحترم الخصوصية والإنسانية.
• نحو طب شخصي دقيق: ومن خلال رسم خريطة لكيفية قيام الميكروبات المعوية بتشغيل أو وقف الجينات البشرية، تُبرز الدراسة الوعد والتعقيد لهذا العلم الناشئ؛ إذ يمكن أن تمهد النتائجُ الطريقَ نحو الصحة الدقيقة لمستقبل يتم فيه تصميم الوقاية والعلاج وفق المزيج الفريد لكل فرد من الميكروبات والتركيب الجيني.
ومع استمرار الباحثين في الكشف عن مدى تعقيد ارتباط بيولوجيتنا بالعالم المجهري داخلنا يصبح شيء واحد واضحاً وهو أنه «عندما يتعلق الأمر بصحتنا فإن الأمعاء قد تكون مهمة بنفس قدر أهمية جيناتنا.



اضف تعليق