في زمنٍ تُعيد فيه الخوارزميات رسم خريطة الجسد البشري بدقةٍ تفوق عدسة الجرّاح، يبرز سؤالٌ يتجاوز ضجيج التقنية إلى صمت الحكمة القديمة: من نحن حين تُصبح أجسادنا بيانات؟ وهل ما نراه من تَقدّمٍ مذهل يقودنا فقط نحو مستقبل أكثر كفاءة، أم يعيدنا أيضاً إلى ماضٍ كان فيه الطبّ لغة تأمل، لا معادلات فقط؟

لقد كان الطبيب في العصور الأولى حكيماً قبل أن يكون مختصاً، يقرأ في نبض المريض خفقان الحياة والمصير، وفي صمته ألماً ومعنى. واليوم، حين يُعيد الذكاء الاصطناعي صياغة علاقتنا بالمرض والشفاء، يبدو كأنه يوقظ فينا صدى تلك اللحظة الأولى التي التقت فيها المعرفة مع الرحمة... والعلم مع الإيمان.

الخوارزميات تفكّ رموز الطبّ القديم

في عام 2023، أطلقت جامعة «لايبزيغ» الألمانية، بالتعاون مع معهد «ماكس بلانك» مشروعاً فريداً لتدريب نماذج تعلّم عميق (Deep Learning) على قراءة النصوص المسمارية من بلاد ما بين النهرَيْن. وكأن الخوارزميات، بعد أن أتقنت لغات المستقبل، قررت أن تعود لتتعلّم لغة الطين.

استخدم الباحثون آلاف الصور الرقمية عالية الدقة لألواحٍ طينيةٍ متهالكة، وعلّموا الآلة بأن تميّز الرموز المسمارية حتى وإن تآكلت أو غابت بعض حروفها. وكانت النتيجة مذهلة، فقد أعادت النماذج الذكية بناء نصوص طبية مفقودة بدقّة تجاوزت 85 في المائة، بل اقترحت قراءاتٍ لغوية أكثر انسجاماً من الترجمات البشرية.

وفي إحدى الحالات، أعادت الخوارزمية وصفةً طبية لعلاج ما كان يُعرف بـالنبض المضطرب -ما نسمّيه اليوم تسرّع القلب (Tachycardia)- مستخدمة مغلي نبات الحرمل، الذي ما زال يُستعمل حتى اليوم بوصفه مهدّئاً للأعصاب. وكأن الخوارزمية لم تترجم فقط... بل فهمت.

من الكاهن إلى الطبيب... ومن الطبيب إلى الخوارزمية

في حضارات وادي الرافدَيْن، كان الطبّ علماً ذا جناحين: الكاهن (آشيبو) والطبيب (آسو). الأول يُعالج بالرقى وتفسير الأحلام، والآخر بالعقاقير والفحص السريري. كانا وجهَيْن لحكمةٍ واحدةٍ ترى أن المرض ليس جسدياً فحسب، بل نفسيّ وروحيّ أيضاً.

وتُظهر الألواح البابلية سجلات لحالات يُحال فيها المريض من الكاهن إلى الطبيب أو العكس، فيما يشبه أقدم نظام للإحالة الطبية (Referral System). وإذا استُبعد السبب الغيبي، تُسلّم الحالة للطبيب الفيزيائي، أما إن عجز الأخير فيُستأنس برأي الكاهن.

اليوم، يعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج هذا المنهج نفسه فيما يُعرف بـالتشخيص المزدوج (Dual Diagnosis)، حين يفصل بين العوامل العضوية والنفسية، ويقترح أكثر من احتمال. إنه لا يتصرّف بوصفه طبيباً أو كاهناً... بل بصفته مرآة ذكية تعكس شكوكنا ويقيننا معاً.

ألواح نينوى... حين ينطق الطين بالحكمة

في مكتبة «آشور بانيبال» في نينوى، عُثر على أكثر من ثلاثين لوحاً طينياً طبياً كُتبت قبل 2600 عام. لم تكن مجرّد وصفات عشبية، بل سجلات سريرية تحتوي على تشخيصات دقيقة لأمراض القلب والصرع والحمّى والأمراض النسائية، بل حتى إجراءات جراحية بسيطة.

كانت تلك الألواح بمثابة السجلات الطبية الإلكترونية لزمنٍ لم يعرف الكهرباء بعد. لكن كثيراً منها بقي صامتاً قروناً طويلة إلى أن جاءت الخوارزميات لتُعيد الحياة إلى حروفه، حرفاً حرفاً، حتى بدا وكأن الطين نفسه بدأ يتكلم من جديد.

من الطب البابلي إلى أخلاقيات الخوارزمية

إن المدهش ليس التقنية وحدها، بل القيم التي تستعيدها. فالأطباء البابليون التزموا بمبادئ صارمة دوّنها قانون حمورابي: «إذا نجحت الجراحة كوفئ الطبيب، وإذا فشل وتسبّب بالأذى يُغرم أو تُقطع يده.

إنه أقدم نصّ يُعبّر عن مفهوم المساءلة الطبية. واليوم، ونحن نُسلّم للخوارزميات قرارات تمسّ حياة الإنسان، يتردّد السؤال نفسه: من يتحمّل المسؤولية إذا أخطأ الذكاء الاصطناعي؟ المطوّر؟ أم الطبيب؟ أم النظام نفسه؟

تلك الأسئلة الأخلاقية تعيدنا إلى ما خطّه البابليون على ألواح الطين: المسؤولية، والشفافية (Transparency)، والنيّة الصافية (Good Faith)؛ وهي المبادئ نفسها التي تقوم عليها أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الحديث.

خاتمة: من الطين إلى السيليكون

يبدو أن الذكاء الاصطناعي لا يمشي فقط نحو المستقبل، بل يمدّ نظره إلى الماضي أيضاً، كأنه يُصغي إلى همس الأجداد في ألواح الطين.

من مسلّة حمورابي إلى شرائح السيليكون، ومن تعاويذ الشفاء إلى خوارزميات التعلّم، تتجلّى أمامنا صورة مهيبة للطب بوصفه علماً إنسانياً لا يعرف حدود الزمان أو المكان.

فإذا كانت بلاد الرافدَيْن قد أنجبت أول طبيب، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم لا يأتي لينافسه... بل ليُحيي رسالته، ويعيد إلى العلم إنسانيته، وإلى الإنسان حريته في أن يَفهم لا أن يُلقَّن. وكما قال حمورابي قبل آلاف السنين: «لقد وضعتُ قوانيني ليشرق العدل في الأرض... ولأمنع القوي من ظلم الضعيف.

واليوم، لعلّ واجبنا أن نضمن بقاء الخوارزمية خادمةً للرحمة... لا أداةً للسلطة.

 

 

متابعات

س ع


اضف تعليق