بينما تستعد القوات الأميركية لإنهاء وجودها العسكري في العراق خلال الشهر الحالي، تتهيأ البلاد لدخول مرحلة أكثر غموضاً على المستويين السياسي والأمني، وسط تساؤلات متزايدة حول الجهة التي ستملأ الفراغ الذي سيخلّفه هذا الانسحاب بعد نحو عقدين من الحضور العسكري الأميركي المتواصل.

فالعراق، الذي خاض تجربة "الشراكة الأمنية" مع واشنطن منذ عام 2014 في إطار التحالف الدولي ضد التنظيمات الارهابية، يقف اليوم أمام معادلة جديدة تجمع بين طموح "استعادة السيادة" ومخاوف بعض الأوساط من أن تؤدي الانقسامات الداخلية إلى إضعاف تلك السيادة بدل تعزيزها.

انسحاب تدريجي محسوب

ورغم إعلان وزارة الدفاع الأميركية قرب انتهاء عملية "العزم الصلب"، فإن الانسحاب يتم وفق خطة انتقالية على مرحلتين، تتضمن إغلاق القواعد العسكرية للتحالف في العراق، مع الإبقاء على وجود محدود في إقليم كردستان حتى عام 2026، لدعم العمليات في سوريا المجاورة.

وتصف واشنطن هذا التحول بأنه "إعادة تموضع مدروسة"، وليس انسحاباً كاملاً، مؤكدة استمرار التعاون مع بغداد في مجالات التدريب والمشورة ومكافحة الإرهاب، تجنباً لتكرار فراغ أمني مشابه لذلك الذي أعقب انسحاب عام 2011، والذي أتاح لداعش السيطرة على مساحات واسعة من البلاد آنذاك.

وبعد هزيمة الارهاب في عام 2017، تصاعدت الدعوات داخل العراق لإنهاء الوجود الأجنبي، وتحوّلت تدريجياً إلى مطلب سياسي واسع تبنته قوى مختلفة، فيما شهدت القواعد العسكرية في السنوات الأخيرة هجمات متكررة بطائرات مسيّرة وصواريخ استهدفت القوات الأميركية، ما جعل ملف الانسحاب بنداً أساسياً في العلاقات العراقية ـ الأميركية.

تحديات ما بعد الانسحاب

يرى مراقبون أن الانسحاب الأميركي يفتح الباب أمام إعادة تشكل خريطة القوى داخل العراق. فالحشد الشعبي، الذي تأسس عام 2014 بفتوى المرجعية الدينية العليا لمواجهة خطر داعش، أصبح اليوم أحد أبرز الفاعلين في المشهدين الأمني والسياسي.

لكن الحشد، الذي يضم فصائل متعددة، واجه منذ اغتيال قادته البارزين عام 2020 تحديات تتعلق بتوحيد قراره الداخلي، إلى جانب اختلاف توجهات فصائله بين من يسعى إلى تعزيز موقعه ضمن مؤسسات الدولة، ومن يفضل الارتباط بعلاقات إقليمية أوسع.

ويحذر باحثون من أن المرحلة المقبلة قد تشهد إعادة توزيع للأدوار بين الفصائل والقوى السياسية، الأمر الذي يتطلب – برأيهم – توافقاً وطنياً يحافظ على توازن الدولة ويمنع انزلاقها إلى صراعات داخلية جديدة.

خلافات قانونية وضغوط سياسية

وفي سياق متصل، علّقت الحكومة العراقية في أغسطس/آب 2025 مشروعَي قانونين لتنظيم أوضاع الحشد الشعبي بعد اعتراضات داخلية وخارجية، فيما عبّرت واشنطن عن مخاوف من أن يمنح القانون المقترح صلاحيات موسعة قد تؤثر في مسار العلاقة الثنائية.

وبحسب تقارير مراكز بحثية أميركية، فقد حذرت واشنطن من أن تمرير القانونين بصيغتهما السابقة قد يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية تطال قطاعات حيوية في العراق، وهو ما يعكس حجم التعقيد الذي يحيط بملف الحشد وموقعه في المنظومة الأمنية العراقية.

أربيل.. محطة الوجود الأميركي المقبلة

في المقابل، يشير مسؤولون أميركيون إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تركّزاً للوجود العسكري الأميركي في إقليم كردستان، حيث سيبقى ما بين 1500 و2000 جندي في قواعد محددة بأربيل لتقديم الدعم اللوجستي والمعلوماتي.

ويعود اختيار الإقليم إلى طبيعة العلاقة المستقرة بين القوات الأميركية وحكومة الإقليم، إضافة إلى موقعه الجغرافي القريب من الحدود السورية.

ويرى محللون أن هذا الوجود سيستمر لما بعد 2026 في ضوء الأهمية الاستراتيجية لأربيل بالنسبة للولايات المتحدة، بوصفها مركز توازن في علاقاتها مع بغداد وبقية القوى الإقليمية.

مستقبل مفتوح على الاحتمالات

يثير هذا التمركز الأميركي في الشمال استياء بعض الأوساط السياسية في بغداد، التي ترى فيه تقليصاً لدور الحكومة المركزية، فيما يعتبر آخرون أنه يساهم في حفظ التوازن الأمني والسياسي داخل البلاد.

وبين هذه المواقف، يبقى مستقبل العراق مرهوناً بقدرته على إدارة التوازنات الداخلية والإقليمية بهدوء، وبناء منظومة أمنية وطنية قادرة على حماية سيادته من دون الاعتماد على أي وجود خارجي.

فالمرحلة المقبلة لا تعني فقط نهاية الوجود العسكري الأميركي، بل اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة العراقية على ترسيخ استقلالها السياسي والأمني وسط بيئة إقليمية شديدة التعقيد.


م.ال


اضف تعليق