وحيدة وغريبة وحزينة، رحلت الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة (1923 - 2007) عن عالمنا في مثل هذا اليوم من عام 2007، تاركة خلفها ديوان شعر رائداً إيقاعيّاً لم يخرج متنه من دائرة الرومانسيّة الكلاسيكيّة، وكتباً نثريّةً آخرها مجموعة قصصية وأبرزها أحد أكثر الكتب إثارة للجدل في الأوساط الشعريّة والنقديّة "قضايا الشعر المعاصر".
في الذكرى السنوية الــ 15 لرحيلها، نسلط الضوء على ملامح من شخصية صاحبة "شجرة القمر" المتمرّدة بوقار والمشاكسة بحذر.
هدوء الملائكة
كان جيران عائلة الجلبي البورجوازية المثقفة في محلة العاقولية ببغداد يرون هدوء أفرادها الوقور بعين العجب والإعجاب، حتّى أطلقوا عليهم لفرط هدوئهم لقب "الملائكة"، وتختلف المصادر فيمن أطلق اللقب أول مرّة (يرجّح أنه الشاعر عبد الباقي العمري)، ولكنّها تتفق أنّ مُلاءَمَته لطباع العائلة وأوصافها جعلته يتغلّب بسهولة على اللقب الأصليّ ويسير في الأجيال، حتّى ورثته في آب/أغسطس من عام 1923 الطفلة الأولى لأبوين شاعرين مثقّفين هما: صادق الملائكة وسلمى عبد الرزاق.
حملت الطفلة اسم "نازك" تيمّناً بالثائرة السورية نازك العابد، ولأنَّ لكلِّ امرئ من اسمه نصيباً كان لنازك الملائكة أن تحمل البعد الثوري لاسمها الأول والطابع الهادئ لاسم عائلتها.
دخول نازك الملائكة الفاعل إلى عالم الأدب الذي كان شبه حصريٍّ للرجال صنع عاصفة، وهي التي رفضت مصطلح "الشعر النسوي" ورأته يضع النساء وشعرهنّ في خانة ضيّقة منفصلة عن حركة الشعر العربيّ.
لم تخرج صاحبة "قرارة الموجة" عن وقارها قط، وعلى الرغم مما أثارته دعواها في كتابها الشهير "قضايا الشعر المعاصر" من حفائظ النقّاد والشعراء على السواء، لم تنزلق إلى دوامة الجدل الحاد، بل بقيت في ردودها ضمن مساحة النقاش الأدبي الرصين، وأقصى ما كانت تفعله حين تضيق ذرعاً بمنتقديها هو أن تنعزل عن الوسط الأدبي.
قوّة المرأة
على الرغم من كونها شاعرة، لم تكن والدة نازك، سلمى عبد الرزاق الملائكة معروفة في الأوساط الأدبيّة باسمها الحقيقيّ، بل كانت تنشر القصائد في الصحف والمجلّات العراقيّة باسم أدبي هو "أم نزار الملائكة"، فالمجتمع المحافظ آنذاك لم يكن يرتاح إلى دخول النساء معترك الثقافة والأدب.
من هنا كانت الساحة مكتظّة بالرجال، خاليةً تقريباً من الجانب الآخر لنازك، التي عادت إلى العراق عام 1947 حاملة شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن الأميركية، ونشرت مجموعتها الشعريّة الأولى "عاشقة الليل" من الشعر العموديّ، وفي العام نفسه كتبت قصيدتها الأشهر "الكوليرا" بالنمط الإيقاعي الجديد المتحرّر من صرامة الشطرين والقافية الموحّدة. وضعتها هذه القصيدة على خريطة التجديد الشعريّ كواحدة من أبرز شاعرات العرب في مواجهة مباشرة مع الشعراء والنقّاد الكلاسيكيين وفي مقدّمهم والدها ووالدتها. وأطلقت حرباً أدبيّة طويلة على ريادة "قصيدة التفعيلة" أو "الشعر الحُر" كما سمّتهُ هي، بينها وبين الشاعر بدر شاكر السيّاب الذي نشر قصيدته الحرّة "هل كان حبّاً؟" قبل قصيدتها بعام واحد.
عاصفة صنعها دخول نازك الملائكة الفاعل عالم الأدب الذي كان شبه حصريٍّ للرجال، وهي التي رفضت مصطلح "الشعر النسوي" ورأته يضع النساء وشعرهنّ في خانة ضيّقة منفصلة عن حركة الشعر العربيّ، وكأنّه لا يوازي شعر الرجال، وفي الخطاب الشعري تميّزت قصائدها بحضور الذات المؤنّثة للشاعرة دائماً، وبانحيازها إلى قضايا النساء الشرقيات.
أمّا على الصّعيد الشخصي، فقد حققت نازك الملائكة استقلالها المادي في سن مبكرة من خلال مهنة التدريس، فكانت في كل جوانب حياتها نموذجاً ملهماً للمرأة القويّة والمؤثّرة.
حساسيّة الشاعرة
"إن نازك الملائكة هي أول شاعرة تسهم في تأسيس القصيدة العربية الحديثة وتدافع عنها نظرياً وجمالياً. فقدنا شاعرة لا وجود لمثلها الآن في العالم العربي، ويصعب أن نجد شاعرة تعوّض مكانتها في القريب المنظور. كانت نازك الملائكة من أصدق وأنبل الأصوات الشعرية منذ العصر الجاهلي وإلى الآن". بهذه الكلمات رثى الناقد والباحث المصري جابر عصفور الشاعرة الفارقة صاحبة "شظايا ورماد"، مشيراً إلى فرادة حضورها الشعري والنقدي في الثقافة العربية.
وبعيداً من تجديده وتمرّده وغناه على مستوى الإيقاع، تميّز شعر الملائكة في الموضوع بنفَسٍ رومانسي عابق بالحزن واليأس والوحدة والشكوى، نابع من حساسية عميقة مفرطة وثقافة متينة متجذّرة، وفي شعرها نزوع إلى الواقعية وميل عن النموذج واعتناء بالمضمون.
لم تنفصل الملائكة عن واقعها العربي على الرغم من اختيارها العزلة عن المجتمع في فترات طويلة من حياتها، فلم تغفل في شعرها القضايا العربيّة والإنسانيّة وفي مقدّمها القضيّة الفلسطينيّة، التي خصّصت لها مجموعة شعريّة عام 1978 بعنوان "للصلاة والثورة".
غربة المثقّفة
"عرفتُ نازك الملائكة في بيروت. وكانت بيننا خلافات، لكنها كانت عالية، وبقيت عالية في سماء الأخوة الشعرية. لقد فجعتها وخانتها قضايا السياسة. غير أنها، هي، لم تخن نفسها، ولم تخن قضية الشعر"، كان هذا وصف الشاعر السوريّ أدونيس لزميلته الرائدة التي قضت حياتها متنقّلة بين المدن والبلاد، فمن بغداد إلى الولايات المتّحدة سافرت في شبابها لإكمال دراستها، ومن بغداد التي كانت أستاذة جامعيّة فيها، إلى البصرة القريبة انتقلت مع زوجها ووالد ابنها الوحيد "البراق"، الدكتور عبد الهادي محبوبة، حيث درّست في جامعتها، وكان محبوبة رئيس "جامعة البصرة" في تلك الفترة، ولسبب ما نُحّي عن رئاسة الجامعة ونُحّيت هي عن التدريس بعد عامين من تولّي صدّام حسين رئاسة العراق، فانتقلا معاً إلى الكويت ودرّسا في جامعتها، لكن ما لبث صدّام أن غزا الكويت عام 1990، فانتقلا مجدّداً إلى القاهرة حيث عاشت في عزلة شبه كاملة إلى آخر حياتها.
يروي معاصروها في القاهرة أنها كانت تتجنّب التواصل حتى عبر الهاتف، وكان زوجها يجيب على الاتصالات معتذراً لأنَّ نازك ليست على ما يرام، وبعد وفاته تولّى وحيدها "البراق" هذه المهمّة.
وعلى الرغم من عزلتها وكآبتها، لم تتوقّف الملائكة عن الإنتاج الأدبيّ فصدر لها كتاب نقدي عام 1992 عنوانه "سايكولوجية الشعر"، وأصدرت آخر كتبها وهو مجموعة قصصية بعنوان "الشمس التي وراء القمّة" عام 1997، أي بعد عام واحد على فوزها بــ "جائزة البابطين للشعر العربي" عام 1996، وقبل عامين من تكريمها في "دار الأوبرا" المصريّة لمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة الشعر الحر عام 1999، والذي لم تحضره بسبب المرض.
رحلت نازك الملائكة تاركة خلفها إرثاً ثقيلاً للشعراء عموماً وللشاعرات العربيّات خصوصاً، فهي الشاعرة التي أثبتت نفسها بقوّة وهدوء وتصدّرت المشهد فترة غير قليلة، في وسط أدبي محتدم وقاسٍ كان حضور المرأة فيه خجولاً وهامشيّاً قبلها، فشُبّهت بالخنساء عن استحقاق وبقي اسمها مركزياً لا يمكن تجاوزه في سياق حركة الحداثة الشعرية العربية.
المصدر: الميادين نت
اضف تعليق