"قُل شيئا ثم افعل شيئا آخر". تلخص هذه الجملة إلى حد كبير العقيدة السائدة حاليا في الاقتصادات الناشئة في ما يتعلق بإدارة أسعار الصرف.
يُفتَرَض أن تستخدم الدول أسعار الفائدة لتحقيق هدف التضخم والسماح لسعر الصرف بالتحرك بحرية، في الممارسة العملية، كثيرا ما تتدخل البنوك المركزية في آسيا وأميركا اللاتينية في أسواق العملة عن طريق شراء وبيع احتياطيات دولية، والاستعانة بمجموعة من التدابير الأخرى للحد من تقلب عملاتها.
يقول الاقتصادي والسياسي التشيلي أندريس فيلاسكو، "سيكون الاستمرار في التظاهر على هذا النحو في ما يتصل بأسعار الصرف أكثر صعوبة بعد خطاب تاريخي ألقاه الأسبوع الفائت المدير العام لبنك التسويات الدولية أجوستين كارستنز في مدرسة السياسة العامة التابعة لكلية لندن للاقتصاد".
ويبين انه "في الماضي، كان بنك التسويات الدولية يُعَد معقلا للرأي التقليدي، ولكن الآنيزعم بنك التسويات الدولية أن الآراء التقليدية لابد أن تخضع للتحديث. ومن المحتم أن تنصت الأسواق".
ويضيف "ربما يكون بوسع أنصار استهداف التضخم أن ينسبوا لأنفسهم إنجازات مهمة، وهو ما سجله كارستنز على النحو الواجب، وقد ساعد هذا في خفض معدلات التضخم في أغلب الأسواق الناشئة، كما ساعد في خفض ما يسميه الاقتصاديون (مرور أسعار الصرف)ــ التأثير الفوري الذي تخلفه تخفيضات أسعار الصرف على التضخم المحلي".
ويستدرك فيلاسكو "هذا لا يعني أن الأسواق الناشئة يمكنها، أو ينبغي لها، عندما تواجه تدفقات ضخمة من رؤوس الأموال، أن تمارس (الإهمال الحميد) لسعر الصرف، كما يقترح الرأي التقليدي السائد، والواقع أن هذا القول المأثور (يُحتَرَم في خرقه أكثر من احترامه كدليل للسياسة النقدية)، كما لاحظ كارستنز بجفاء".
ويشير الى انه "هناك حقيقة أساسية تفسر الفجوة بين النظرية والممارسة، الواقع أن الظروف المالية في الاقتصادات الناشئة تصبح محكمة عندما تنخفض قيمة عملاتها، والعكس صحيح، ولم يكن من المفترض أن يحدث الأمر على هذا النحو، بل كان المفترض أن يسمح لها تعويم عملاتها بالسيطرة على أسعار الفائدة المحلية، والتي يمكن تعديلها بعد ذلك عند الضرورة لتخفيف التقلبات الاقتصادية المحلية، ولكن للأسف، تبين أن الواقع أكثر إثارة للحيرة والارتباك".
يتابع فيلاسكو ان "هناك مشكلة واحدة مفهومة بشكل واضح، فبسبب تقلب التاريخ المالي للاقتصادات الناشئة، كثيرا ما لا تجد حكوماتها وبنوكها وشركاتها أي اختيار سوى الاقتراض في الخارج بالدولار، وعندما ينخفض سعر الصرف، تزداد قيمة هذه القروض بالعملة المحلية، في سيناريو معتدل، من الممكن أن يؤدي هذا إلى التخلف عن السداد، والإفلاس، وأزمة مالية، وتشكل تأثيرات الميزانية العمومية السلبية هذه أحد الأسباب وراء حساسية البنوك المركزية في الأسواق الناشئة لتحركات أسعار الصرف الحادة".
الخبر السار هنا يقول فيلاسكو هو أن "(الخطيئة الأصلية) التي منعت الأسواق الناشئة من الاقتراض بعملاتها الخاصة يبدو أنها قد غُفِرَت، فاليوم يحتفظ المستثمرون الأجانب بمحافظ استثمارية ضخمة من سندات العملة المحلية في كولومبيا، والمكسيك، وجنوب أفريقيا، وتركيا، بين بلدان أخرى". أما الخبر السيئ، يتابع، "كما يزعم خبراء الاقتصاد في بنك التسويات الدولية فهو أن الاقتراض بالعملة المحلية مفيد، لكنه ليس الدواء الشافي من كل داء إذ تُظهِر أبحاثهم أن سعر الصرف المنخفض بشكل حاد يرتبط باتساع الفوارق في أسعار الفائدة السيادية: فعندما يسجل سعر البيزو، أو الراند، أو الليرة، انخفاضا حادا، ترتفع أسعار الفائدة المحلية الطويلة الأجل! ومن المؤكد أن هذا ليس ما قد تتوقعه الحكمة المنقولة بشأن آليات تحويل السياسة النقدية".
السبب وراء هذا السلوك المتناقض بحسب فيلاسكو هو أن "المستثمرين العالميين ملتزمون بقواعد القيمة المعرضة للخطر ومهتمون بالعائدات بالدولار، وعندما يتعرضون لخسائر ناجمة عن تغير سعر الصرف، فإنهم يذهبون تلقائيا إلى تقييد الائتمان المقدم إلى ذلك البلد، مما يؤدي إلى انخفاض سعر الصرف بشكل أكبر وارتفاع أسعار الفائدة المحلية".
ويضيف "يستنتج بنك التسويات الدولية أن (سعر الصرف ربما يعمل كناقل ومضخم للصدمات المالية، وليس كأداة لامتصاص الصدمات الحقيقية)، عندما تتسبب التغيرات في السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة أو التحولات في شهية المستثمرين في تدفق رؤوس الأموال بكميات ضخمة إلى الخارج".
ويتابع "هذه مشكلة كبرى للبنوك المركزية التي تنشغل ــ كما ينبغي لها ــ بالاستقرار المالي، ولكن حتى في نظر البنوك المركزية التي تهتم بالتضخم ولا شيء غيره، تمثل تقلبات سعر الصرف معضلة، تفرض العملة المرتفعة القيمة ضغوطا تدفع التضخم إلى الانخفاض، لكنها تعمل أيضا على تخفيف الظروف المالية المحلية، ومع تراكم الديون والمخاطر، تصبح الساحة ممهدة لانخفاض حاد في قيمة العملة وضغوط تدفع الأسعار إلى الارتفاع في المستقبل".
ويتسائل فيلاسكو "تُرى ماذا ينبغي للقائمين على البنوك المركزية أن يفعلوا حيال هذه المقايضة بين التضخم اليوم في مقابل التضخم في الغد؟ يتمثل أحد الاحتمالات في ضم سعر الصرف إلى العوامل التي يضعونها في الاعتبار عند تحديد أسعار الفائدة. ويمكن تحقيق هذا من خلال قاعدة تايلور المعدلة ــ على اسم الخبير الاقتصادي جون تايلور من جامعة ستانفورد ــ التي أضافت انحراف سعر الصرف عن مستوى هدف معين إلى أهداف قياسية للتضخم والفجوة في الإنتاج".
الواقع أن العديد من الأسواق المركزية في الأسواق الناشئة تقوم بذلك بالفعل، فبعد انخفاض قيمة العملة، تقوم هذه الأسواق عادة بتشديد السياسة النقدية من أجل احتواء ما يسمى تأثيرات الجولة الثانية (حيث يؤدي سعر الصرف الأضعف إلى تلويث التوقعات وسلوكيات تحديد الأجور). والمشكلة هي أنه عندما يتمكن الذعر من المستثمرين ويصبح سعر الصرف غير متوازن، فقد يصبح رفع أسعار الفائدة إلى أي مستوى غير كاف لتهدئة الأمور. الأسوأ من ذلك أن أسعار الفائدة الشديدة الارتفاع التي تغرق الاقتصاد وتتسبب في تراكم ديون البنوك المركزية القصيرة الأجل ربما تقلل من مصداقيتها بدلا من تعزيزها.
لنستشهد هنا بالأرجنتين اليوم: تعهد البنك المركزي بالحفاظ على ثبات المعروض النقدي (وهو يفي بتعهده)، وأسعار الفائدة القصيرة الأجل 70%، وتعمل الحكومة على خفض العجز المالي بشكل كبير. لكن التضخم يواصل الارتفاع (كان قريبا من 55% على مدار الاثني عشر شهرا الأخيرة) ولا يزال البيزو تحت الضغط.
يتمثل أحد البدائل في استخدام التدخل المعقم في سوق الصرف، كما تفعل العديد من الدول الآسيوية بشكل روتيني، وكما توشك الأرجنتين أن تفعل، على الرغم من التعهدات السابقة بعكس ذلك. يسمح التدخل أثناء ارتفاع سعر صرف للبنوك المركزية بتكديس الاحتياطيات الدولية، وهي سياسة تحوطية كلية مرغوبة. وأثناء التراجع، عندما يسحب المستثمرون العالميون أموالهم، من الممكن أن يعمل التدخل في سوق الصرف عن طريق بيع الاحتياطيات كأداة لتحقيق الاستقرار، لأنه يوفر السيولة الدولارية التي يحتاج إليها الاقتصاد المحلي بشدة.
سوف يزعم المتشككون أن التدخل المعقم في سعر الصرف ليس من المفترض أن يخلف أي تأثير. لكن أولئك المتشككين مخطئون، كما يؤكد الباحثون في بنك التسويات الدولية. وقد لاحظ كارستنز أن أعمال هؤلاء الباحثين تُظهِر أن "المشتريات المعقمة من العملات الأجنبية في اقتصادات الأسواق الناشئة تفرض تأثيرا خافضا كبيرا، على المستويين الإحصائي والاقتصادي، على أسعار الصرف، ولو بشكل مؤقت على الأقل".
ولكن هل ينبغي لهذا التدخل أن يسترشد بالتقدير أو القواعد؟ إذا استرشد بالقواعد، فهل تكون القواعد مرنة بالقدر الكافي لتجنب إنشاء سعر صرف شبه ثابت والذي ستراهن عليه الأسواق حتما؟ لا تزال هذه الأسئلة وغيرها الكثير في حاجة إلى إجابة.
لكن الأمر الوحيد المؤكد هو أن التعويم النظيف حل محل التعويم القذر، ويبدو أن النظرية بدأت تلحق أخيرا بالممارسة.
اضف تعليق