جواد الشمري:
رياض ذلك الشاب الفارع الطول كنخلة يتميز بسحنته السمراء الجنوبية وابتسامة ريفية لا تفارق محياه يحمل قلبا يفيض حبا بوطنه، وارضه المعطاء، شهم وغيور الى حد الشموخ فيكاد ينفجر شجاعة حين المنازلة.
في ذات صباح يحمل حقيبته ليهم بالخروج من منزله في احدى القرى النائية في الناصرية ليلتحق بوحدته العسكرية في سدة النعيمية في الفلوجة غربي بغداد بعد انقضاء اجازته الاخيرة.
امه وزوجته وبناته وولداه يودعونه وكأنه الوداع الاخير، مشى قليلا فعاد ادراجه فضمهم جميعا، ومضى وعيونهم ترنو اليه وهي تفيض بالدموع، قالت امه بصوتها الشجي الحنون (وداعة الله يرياض يمه).
ابناء الجنوب رغم الحياة القاسية وشظف العيش وفقر الحال نتيجة لسياسات النظام البائد والحالي يتميزون بانهم عراقيون الى حد الجنون, ويعد رياض مثالا للحرمان الذي مارسته الحكومات المتعاقبة التي اتخذت من هؤلاء الفقراء وسيلة لتحقيق غاياتها الدنيوية في المال والجاه والسلطة والمناصب والمكاسب فهم يزدادون ثراءً وابناء العراق يزدادون فقرا وحرمانا.
وصل رياض وحدته العسكرية وبقي هناك عشرين يوما الى صبيحة يوم 26 من شهر كانون الثاني عام 2014 وهو يوم الهجوم من قبل تنظيمات داعش الساعة السادسة صباحا على وحدته مغاوير الفرقة الخامسة مع رفاقه وكان عددهم احد عشر جنديا بعد حصار دام ثلاثة ايام.
استمر الهجوم عليهم خمس ساعات وهم يدافعون عن انفسهم بما يملكوه من عتاد وذخيرة لم تصمد طويلا مع نفاذ ارزاقهم من الماء والمواد الغذائية مع انهم ارادوا النجدة عدة مرات فلم ينجدهم احد او يسعفهم علما ان هذه الحالات طالما تكررت كثيرا في اماكن عدة في مناطق المواجهة مع داعش فاستشهد واسر العديد من الجنود بهذه الطريقة حيث انهم يبقون يقاتلون حتى تنفذ ذخيرتهم فيجهز العدو عليهم.
كان الاشتباك مع العدو مستمرا وفي تمام الساعة التاسعة صباحا اصيب رياض ورغم اصابته ظل يقاتلهم بكل شجاعة وبسالة وصمود.
استشهد اربعة من رفاقه وتم اسر الستة الباقين الا هو استطاع التخفي عن الاعداء خلف بناية صغيرة لكنه ظل يشاغلهم بما بقي عنده من اطلاقات اخيرة وهم يحوطونه من كل جانب.
هنا شعر انها الدقائق الاخيرة من حياته تذكر اهله واحبته وذويه اخرج جهاز الهاتف فاتصل بأخيه واخبره بما جرى له, وقال له اعطني والدتي لأتحدث معها قال لها: امي الغالية انهم يقتربون مني ولم يبق بيني وبين الموت الا وقت قصير جدا (ابريني الذمة يمه) فسقط الهاتف من يدها وهي ترتجف وتصرخ.
فأخذت زوجته ربيحه التلفون وسلمت عليه واخذ منها البراءة والسماح واوصاها بأمه وبناته الخمسة وولديه الاثنين.
تحدث مع بناته واوصاهن بأختهن الصغيرة المعاقة خيرا وسط بكاء الجميع ونحيبهم فتم قطع الاتصال الاخير بينه وبين اهله وأحبته.
قاتلهم قتال الابطال ولم يعطهم بيده اعطاء الذليل ولم يقر لهم اقرار العبيد فلم يستسلم حتى رموه بقنابل يدوية من خلف الجدار لانهم لم يستطيعوا مواجهته رغم انه بقي وحيدا مصابا عطشانا جائعا غريبا.
بعدها بساعة رن جهاز الهاتف اجاب اخيه (نعم خويه رياض) واذا بصوت غريب ليس صوت اخيه قائلا: لقد قتلنا ابنكم ايها الرافضة الكفرة وكفاكم ان ترسلوا ابنائكم الى مناطقنا وارضنا ليدنسوها سوف نقتلهم جميعا واحدا واحدا.!
اما رفاقه الاسرى فقد اقتادهم الاعداء وطافوا بهم شوارع المدينة وهم يكبرون الله في اعتقادهم انهم منتصرون فوصلوا بهم الى احد المساجد ليذبحوهم كالخراف وسط التهليل والتكبير من جميع الحاضرين.
بقي رياض ورفاقه الشهداء مدة سنتين ونصف بعد ان جاء رجل يدعى كريم من اهالي الفلوجة وقام بدفنهم قرب جامع الرحمن واتصل باهلهم وارشدهم الى عنوان الدفن ذاته.
مضت الايام ومازال اهله ينتظرون اليوم الذي يستطيعون الوصول الى جثمانه الطاهر لكي يقوموا بدفنه واقامة مراسم العزاء على روحه الطاهرة.
وبعد تحرير مدينة الفلوجة اصبح الطريق سالكا ومؤمنا فاتصل شقيق الشهيد رياض بالعم كريم الذي قام بعملية الدفن المؤقت لجثامين الشهداء، وتم اجراء اللازم وحان اللقاء وماهي الا ساعات واذا بالسيارة تحمل صندوقا خشبيا وضع عليه العلم العراقي تصل الى قرية البو حوالة في ناحية سديناوية قضاء الناصرية عشيرة ال ازيرج وهنا اجتمع الاهل والاقارب والجيران والكل ينتحب ويبكي الشهيد ويعزي احدهم الاخر.
كانت زوجته ربيحه مذهولة لهول ما أصابها من فقد رفيق دربها وابي اولادها وبناتها الخمس ومن ضمنهم الصغيرة المعاقة.
استذكرت ايامها معه واسترجعت ذكرياتها ، وكيف حدث زواجها منه، عندما قال له اخوها وهو صديق الشهيد سوف ازوجك اختي لأنك صديق وفي ورجل شهم وغيور وانا اريد لأختي فارسا مثلك فكان موقفا مؤثرا ورائعا.
وهنا تنتبه ربيحه وقد اعياها البكاء والصراخ والعويل واذا بها فجأة تسأل الحاضرين هل تأكدتم انه رياض.؟ قالوا لها نعم، قالت لهم وكيف ذلك.؟ اجابوها انه هو من ملابسه ومن هويته في جيبه اضافة الى الدليل الذي قام بدفنه واتصل بنا حينها قالت لهم: دعوني اراه واذا به بقايا جسد اكله التراب وغير محاسنه وشوه وجهه الجميل.
قالت لهم: انه نعم هو رياض وعلى حين غفلة من الحاضرين سحبت سلاحه الشخصي ووضعته في بطنها واطلقت على نفسها النار معلنة اللحاق به على طريقتها ونهاية قصة حياتها.
فكانت فاجعة ومأساة لا توصف لجميع الحاضرين..
وترك رياض وربيحه سبعة ايتام اثنين من الابناء وخمس بنات احداهما معاقة مع جدتهم الطاعنة في السن في بيت طيني في قرية نائية في الجنوب العراقي. انتهى/خ.
اضف تعليق