بمناسبة ذكرى أربعينية استشهاد مولانا سيّد الشهداء الإمام الحسين صلوات الله عليه، وأهل بيته الأطهار، وأصحابه الأبرار سلام الله عليهم، وبمناسبة الزيارة الأربعينية الحسينية المليونية الفريدة، أصدر محيي الشعائر الحسينية المقدّسة، والذابّ عنها والمحامي لها، المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، بياناً مهمّاً، إليكم نصّه الكامل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلوات الله التامّات على سادات الخلق أجمعين (محمّد) المصطفى وعترته الطاهرين أمير المؤمنين وسيّدة النساء فاطمة الزهراء والسبطين الحسن والحسين والتسعة المعصومين من ذرية الحسين لاسيما بقيّة الله في الأرضين الحجّة بن الحسن المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
ورد في الرواية الصحيحة أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يدعو لزوّار الإمام الحسين عليه السلام في حال السجود ويقول في دعائه:
(اللهم... اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا ورجاءً لما عندك في صلتنا وسروراً أدخلوه على نبيّك وإجابة منهم لأمرنا وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافئهم عنّا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف وأصحبهم واكفهم شرّ كلّ جبّار عنيد وكل ضعيف من خلقك وشديد وشرّ شياطين الإنس والجنّ وأعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم، اللهم إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حفرة أبي عبد الله، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهم إنّي استودعك تلك الأبدان وتلك الأنفس حتى توافيهم (تروّيهم) من الحوض، يوم العطش) (كامل الزيارات، الأحاديث، ص 228).
وتأسّياً بأبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام أبتهل إلى الله سبحانه وتعالى وأتوجّه إليه وأقول:
اللهم إنّي أشكرك شكراً كثيراً متواصلاً دائما ـ عاجزاً عن أداء شكرك ـ على هذه النعمة العظمى التي أنعمت بها على عشرات الملايين من عبادك هذا العام وفي كل عام حيث التوفيق لزيارة (الأربعين) المقدّسة، التي صرّحت المتواترة من الروايات عن رسول الله وعترته الطاهرين ـ أعدال القرآن الكريم (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) بأنها أفضل وأفضل من العشرات والعشرات من الحجّ المقبول، والعمرة المقبولة.
فهنيئاً للزوّار الكرام هذه السعادة والشرف والكرامة في الدنيا والآخرة.
وهنيئاً لمن يخدمون الزوّار بأنواع الخدمات وتقديمهم ما يحتاجون إليه الذين لا تقلّ مثوباتهم عند الله عزّ وجلّ عن مثوبات الزوّار الأماجد.
وأما الذين لم يوفّقوا ـ هذا العام ـ لهذه الزيارة العظيمة، ولا لخدمة الزوّار فليسألوا الله عزّ وجلّ إشراكهم مع الزوّار والخدم في الأجر بنيّاتهم الصالحات وشوقهم إليهم وحبّهم لهم ولأعمالهم فقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم). (مستدرك الوسائل، ج 12، الحديث 13648).
إنّ زيارة الإمام الحسين عليه السلام في شتى أيّام السنة، وخاصّة في (الأربعين) المقدّس هي من (الخصائص الحسينية) حيث إنّها رغم استحبابها ولكنها تجوز وفضيلة عظمى حتى مع الخوف والضرر وخطر التعذيب والقتل وأمثالها.
ففي أيّام بني أمية وبني العباس كان الزوّار المظلومون يتعرّضون لأنواع المخاطر وأصناف التعذيب والتنكيل وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون، والقتل، لكن ومع ذلك كان الأئمة المعصومون عليهم السلام ـ وهم أعدال القرآن الكريم ـ يشجّعون ويرغّبون عليه ويأمرون الناس بمواصلتها سنوياً وشهرياً واسبوعياً ويومياً ـ كما في متواتر الروايات الشريفة.
وكلما سنحت فرصة على مرّ التاريخ تنشغل فيها الحكومات الظالمة بشؤونها الداخلية والخارجية وتغفل عن كربلاء المقدّسة والزوّار المظلومين، عادت هذه الأرض الطاهرة لتتزاحم عليها الألوف والألوف من الزوّار، وبعضهم كان يشيّد حول القبر الشريف الطاهر حجرة صغيرة، وبعضهم كان يبني حول تلك الحجرة، مساكن ومثاوي لإيواء الزائرين، وتصبح كربلاء المقدّسة مدينة ـ ولو صغيرة ـ ويكثر الزوّار والقاصدون والوافدون إليها من داخل العراق وخارجه.
ثم تتعرّض لاجتياح آثم من قبل الحاكم الأموي أو العباسي وسائر الظلمة والطغاة فتهدم وتحطّم وتدمّر كربلاء المقدّسة كلّها وتشرّد الزوّار وتعذّبهم في غياهب السجون والمطامير وتقطّع أيدهم وأرجلهم وتقتلهم بأبشع أنواع القتل.
وكان ذلك يتكرّر، ويتكرّر عبر السنوات والقرون.
ومن ذلك، ما سجّله التاريخ عن المتوكل العباسي (انه أرسل بُغا الكبير) في القتل فبلغت المقتلة ثلاثين ألفاً وعفي قبر الشهيد الحسين (عليه السلام) وما حوله من الدور. (سير أعلام النبلاء، ج 12، ص 35).
ونحو ذلك كثير وكثير.
وفي أواخر القرن الماضي بلغت المظالم مبلغاً كبيراً، إذ قتلوا من زوّار الإمام الحسين عليه السلام بالمصفّحات والطيّارات عشرات الألوف من المشاة إلى كربلاء المقدّسة.
ولكن الزوّار الكرام وفي مقدّمتهم الشعب العراقي المؤمن الصامد استمرّ متواصلاً مع مسيرة زيارة (الأربعين) الشجاعة والظافرة فتوافد الجميع بعشرات الملايين على كربلاء المقاومة مستلهمين من (سيّد الشهداء عليه السلام) الإباء والاستقامة والثبات رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، كباراً وصغاراً، وعلى شتى المستويات من العلماء الأعلام والأكاديميين، والموظّفين والتجّار والكسبة والعمال وهم ينادون بلسان واحد (لبيك ياحسين.. لبيك ياحسين) متّحدين جميعاً تحت الراية العالمية والخفّاقة للإمام الحسين عليه السلام فإنّ (الحسين يوحّدنا) وهو رمز الوحدة البشرية جميعاً.
وقبل قرن وفي خضم (ثورة العشرين المظفّرة) حيث الاستعمار البريطاني البغيض بجيشه الجرّار وأسلحته الفتّاكة حتى القذائف والقنابل جاء من وراء البحار، وانقض على الشعب العراقي المظلوم الأعزل، فلم يتوان هذا الشعب الأبي الصامد وهبّ بكل فئاته وطوائفه يقدمهم العلماء الأعلام وتبعتهم العشائر الغيورة التي كانت ولاتزال الحصن الحصين للإسلام ـ ممتثّلين أوامر الإمام المجاهد الشيخ محمّد تقي الشيرازي ـ قدّس سرّه ـ مفّجر الثورة الدفاعية المقدّسة، فثابروا حينذاك مشاة إلى زيارة الإربعين، وافدين على القبر الطاهر للإمام الحسين عليه السلام حتى تساقط الألوف والألوف منهم شهداء في تلك الحرب الظالمة.
ولم يسجّل التاريخ البشري ـ منذ العهد الأول وحتى اليوم ـ تجمّعاً بشرياً لعشرات الملايين في كل عام، يضمّ شتى المذاهب والأديان والشعوب والقوميات مثل هذه الشعيرة المقدّسة (الأربعين الحسيني عليه السلام) من جميع الجهات.
وهذه العظمة والشموخ ـ رغم تواتر وتعاقب أنواع المظالم، من الداخل والخارج ـ لم تكن إلاّ وعداً إلهياً على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله ) حيث سجّل كلمته الخالدة (.... وينصبون لهذا الطف علماً... على كرور الليالي والأيّام... وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلايزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علواً). (كامل الزيارات، ص 444).
وإنّني ـ من منطلق المسؤولية الشرعية ـ أشكر الجميع والجميع الذين نصروا الإمام الحسين عليه السلام بشتّى أنواع النصرة.
1) بداءً بالزوّار الكرام الذين تحمّلوا وعثاء السفر وعناء الطريق كل بحسبه وظروفه ومشاكله ـ والأجر بقدر المشقّة ـ وقد شملهم جميعاً أدعية الرسول الأعظم، و سيّدة النساء، والأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام.
2) والمشاة منهم بالخصوص الذين زاد حظّهم في هذا المجال، كل بقدر ما مسّه من متاعب وأذى، ومعاناة من مشكلات ومحن، فهنيئاً لهم ثم هنيئاً.
3) والذين بذلوا الغالي والنفيس وضحّوا حتى بضروريات الحياة من مساكن وسيارات ومحلاّت هي مواردهم المعيشيّة، وغيرها ووفروا للزوّار الكرام شتى أنواع الراحة وأمّنوا لهم مختلف حاجاتهم، حتى يؤدّوا زياراتهم بكل عظمة وشموخ.
4) وهكذا أصحاب (الإعلام العالمي) الذين سهروا الليالي ووقّفوا أنفسهم مجتهدين مثابرين حتى عكسوا للعالم كلّه تلك المواقف المربّية والممارسات العظيمة والمناظر الفريدة النادرة، كي تتعلّم البشرية منها كيف تستلهم تلك الأجواء الإنسانية الرفيعة.
5) وكذلك رجال الدين والعلم حيث فتحوا البعثات الدينية لإرفاد الزوّار بما يحتاجونه من تعليمهم عقائد الإسلام وأخلاق أهل البيت عليهم السلام، والمسائل الشرعية، ليعودوا من هذه الشعيرة المقدّسة ـ سالمين إلى سالمين إن شاء الله ـ وهم مثقّفون ـ أكثر وأكثر ـ بثقافة القرآن الحكيم التي بيّنها النبيّ والعترة الطاهرة عليه وعليهم الصلاة والسلام.
6) وفي هذا السياق أشكر الجميع... والجميع... ممن آزروا، وأعانوا ـ جاهدين وبكل الطاقات والإمكانات، ليلاً و نهاراً ـ ووفّروا سائر أنواع الأمن والنظام والخدمة والرفاه والراحة وسهّلوا تحقيق هذه الزيارة العظمى.
كما وأهيب بأصحاب النفوذ في الحكومات الإسلامية ـ وكذا غيرها ـ أن لا يقصّروا في ما يمكنهم من تأمين راحة الزوّار في الجواز والتأشيرة وغيرهما، كي لا يصنّفوا فيمن خذلوا الإمام الحسين عليه السلام، حتى لا يشملهم ـ والعياذ بالله ـ دعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) من الله عزّ وجلّ بخذلانهم، فيصيبهم خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي الختام أأكّد على انّ الهدف الأسمى للإمام الحسين من نهضته الوضّائة، وتضحيته العديمة النظير في تاريخ البشرية، ما صرّح هو عليه السلام به حيث قال: (أريد أن أسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب). (بحار الأنوار، ج 44، ص 329).
ومن المعلوم والواضح لكلّ من يتصفّح تاريخ حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله خلال عشر سنوات، وتاريخ حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) على نصف المعمورة آنذاك خلال خمس سنوات.
إنّ السيرتين العظيمتين كانتا فريدتين في تاريخ البشرية كلّها منذ فجر التاريخ وحتى هذا اليوم. فلم يكن يوجد تحت حكومتيهما، حتى فقير واحد يبقى على فقره.
ولم يكن يوجد إعدام سياسي واحد.
ولا يوجد سجين سياسي واحد.
ولا يوجد سجين لأجل الديون.
ولا يوجد بيع الأرض من قبل الحكومة (فإنّ الأرض لله ولمن عمّرها). (الكافي، ج 5، ص 279، الحديث 2).
ولا يوجد..... ولا يوجد.... ولا يوجد وهكذا....
والحكومة العالمية لسيّدنا ومولانا بقيّة الله في الأرضين، المهديّ الموعود (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) هي الأخرى كحكومة رسول الله وحكومة أمير المؤمنين (عليهما وآلهما الصلاة والسلام).
فقد ورد في الأحاديث الشريفة:
(إنّه يسير بسيرة جدّه رسول الله ويسير بسيرة جدّه أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما). (الكافي، ج1، ص 411، الحديث 4 وتهذيب الأحكام، ج 6، ص 154، الحديث 1 والإرشاد للشيخ المفيد ره، ج 2، ص 382 وغيرها).
فلتتعلّم الحكومات والأنظمة في كل العالم وخصوصاً الحكومات الاسلامية ـ من رسول الله وأمير المؤمنين والمهدي الموعود (عجّل الله تعالى فرجه الشريف وصلوات الله عليهم) تلكم السيرة الإنسانية الفضيلة، لينعم الجميع، حكومات وشعوباً وعلى جميع الأصعدة وشتّى الأدوار، بأفضل حياة، وأكرم عيشة، وأحسن ما يمكن للبشر في الدنيا.
فلا جوع، ولا مظالم، ولا حرمان، ولا... ولا...
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعترته الطيّبين الطاهرين.
قم المقدّسة-16 صفر الأحزان 1440 للهجرة
اضف تعليق