تُعدّ إسرائيل موطنًا ضخمًا لأحد أكبر التجارات في العالم: تجارة الألماس وصناعته؛ لكن هذه الريادة الدولية لم تأت دون طُرق مُلتوية وخروقات للقوانين الدولية في الاستيلاء على الألماس الأفريقي، كما أنّها متّهمة بتغذية الحروب في أفريقيا بالأسلحة من أجل ضمان استمرار تدفّق الألماس إليها، ومعه تدفّق الدماء في أفريقيا، وفي الوقت الذي تصدّر فيه إسرائيل مجوهراتها إلى العالم، وإلى زبائنها من البلدان العربيّة والإسلاميّة الذين يستمتعون بأحدث صيحات المجوهرات في العالم، تشهد هذه التجارة انتهاكات فظيعة لحقوق العمّال المنخرطين بها في البلدان الفقيرة. في هذا التقرير، نأخذك في رحلة إلى جحيم مناجم تنقيب الألماس الأفريقيّة التي جعلت من إسرائيل إحدى أكبر البلدان تصديرًا لهذا المعدن النفيس.
كيف أصبحت إسرائيل رائدة صناعة الألماس في العالم؟
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؛ استطاعت إسرائيل أن تُصبح أكبر منتج للألماس المصقول في العالم، وكانت مدينة "رمات غان" في الأراضي المحتلة عام 1948 تعمل مركزًا لقطع وتلميع الألماس، حيث توجد أكبر بورصات الألماس في العالم. لكن فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي كانت تُعرف أيضًا بأنّها الفترة الأكثر ازدهارًا في العلاقات بين نظام الفصل العنصريّ "الأبارتايد" في جنوب أفريقيا، أحد أكبر مصادر الألماس الخام في العالم، وبين دولة إسرائيل.
تغيرت الأمور بعد عام 1990، حين انتزعت الهند المركز الأول من إسرائيل بعد منافسة شديدة، لكن بالمجمل تُعدّ إسرائيل حاليًّا من أبرز مستوردي الألماس غير المصقول، ومُصدّري الألماس المصقول في العالم، ويعود سبب ذلك إلى علاقة الاحتلال بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وإلى علاقة الجالية اليهودية في دول أفريقيا، القارة التي تمتلك 95% من احتياطي الألماس في العالم، وتنتج 50% من إجمالي إنتاج العالم في هذا المعدن. وتسعى دولة الاحتلال إلى دعم نفوذها في الدول الأفريقية الغنية بالثروات المعدنية والموارد الطبيعية مقابل تقديم نفسها باعتبارها "دولة" متقدمة تمتلك قوة اقتصادية كبيرة.
ورغم السرية الكبيرة التي تحيط بما يدرّه الألماس من دخل للاقتصاد الإسرائيلي، يتوقّع المراقبون أنها تجني ما بين 20-30 مليار دولار على أقل تقدير سنويًا من هذه التجارة، أما الصادرات الصافية فتقدّر ما بين 10-15 مليار دولار، ويمثّل تصدير الألماس ما بين 30-40% من إجمالي الصادرات الصناعية الإسرائيلية، وتوصف صناعة الألماس بأنها "حجر الزاوية في الاقتصاد الإسرائيلي" وهي مصدر رئيس للعملة الأجنبية. كما يمثل الألماس مصدر دخل رئيس لجيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ يقول أحد مساهمي تجارة الألماس، وهو الاقتصادي الإسرائيلي اليساري شير هيفر: "إنه في كل مرة تبيع فيها إسرائيل ماسًا في الخارج، فإن بعض الأموال المعنية تساعد في تمويل الجيش الإسرائيلي".
وتتعرّض إسرائيل إلى انتقادات واسعة وإلى دعوات لإجبار رجال الأعمال في مجال المجوهرات إلى معاقبتها على انتهاكاتها ضد الفلسطينيين. يوضح مقال نشره موقع "غلوبال ريسيرش" الكندي أن: "كلمات الإدانة ليست كافية، وأن الفلسطينيين بحاجة إلى إجراءات من شأنها معاقبة إسرائيل على جرائمها، وينبغي على منظمات مثل الرابطة الوطنية للمجوهرات وبورصة الألماس في لندن إنهاء تجارة الماس من إسرائيل حتى يحين الوقت الذي تحترم فيه حقوق الفلسطينيين وتلتزم بالقانون الدولي، ويجب على الاتحاد الأوروبي أيضاً تعليق الاتفاقية الأورو-متوسطية التي تمنح إسرائيل شروطًا تجارية تفضيلية مع الاتحاد الأوروبي على الرغم من انتهاكها لمعايير حقوق الإنسان التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من هذا الاتفاق".
ويضيف الموقع: "ينبغي على منظمات مثل الرابطة الوطنية للمجوهرات، وبورصة لندن للماس، بالتعاون مع رابطة المجوهرات الراقية في أيرلندا، إنهاء تجارة الألماس من إسرائيل، ودعوة عملية كيمبرلي (عملية تهدف لمنع تجارة الألماس في مناطق الصراع) إلى تعليق إسرائيل على الفور حتى يحين الوقت الذي تحترم فيه حقوق الفلسطينيين".
تُجار الألماس الإسرائيليين أياديهم ملطّخة بدماء حروب أفريقيا الأهليّة
في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كان الملياردير الإسرائيلي دان جيرتلر واحدًا من بين 13 شخصًا في جميع أنحاء العالم، فرضت عليهم الولايات المتحدة عقوبات للمرة الأولى بموجب قانون "ماجنتسكي" للمساءلة العالمية عن حقوق الإنسان.
الملياردير الإسرائيلي دان جيرتلر
الرجل الذي جمع المليارات من صفقات مشبوهة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وتحديدًا من صناعة الألماس في هذه الدولة، متّهم بانتهاكات حقوق الإنسان وقضايا فساد، إذ مكّنته علاقته الوطيدة مع رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية جوزيف كابيلا بالعمل وسيطًا لمبيعات أصول التعدين في الكونغو التي تحصل إسرائيل على معظم حصتها من الألماس الخام.
ولم يكن اسم دان جيرتلر وحيدًا كتاجر ألماس إسرائيلي متهم في قضايا فساد، فسبق وأن اعتقل في ديسمبر (كانون الأول) 2016 قطب صناعة الألماس والمناجم الإسرائيلي بيني شتاينميتس، حين كشف تحقيق سريّ ضخم أنّ أحد أغنى الأشخاص في العالم متورط بتبييض الأموال ورشوة مسؤولين حكوميين في أفريقيا، مقابل تمرير مصالحه التجارية في البلاد، ورغم اضطرار الحكومة الاسرائيليّة لاعتقاله، إلا أنها في أغسطس (آب) 2018، أصدرت قرارًا بإطلاق سراح شتاينميتس.
وفي أبريل (نيسان) 2016 اضطرت إسرائيل للتحقيق في عملية احتيال هائلة في أكبر سوق للألماس في العالم، إذ بلغت قيمة الألماس والأموال ذات الصلة بهذه الجريمة في السوق العالمي حوالي 65 مليون دولار، وقد قام التاجر الإسرائيلي حنان أبراموفيتش، بالاحتيال لجمع أموال تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات، وبشكل عام يسجل أكثر من تورط لشركات إسرائيلية في التجارة غير المشروعة للألماس، إذ تعمل هذه الشركات كمافيات للحصول على هذا الحجر الثمين، ثم تهريبه من دول مثل الكونغو وسيراليون وأنجولا عبر دول الجوار ليصل إلى دول العالم.
القضيّة الأخطر التي ظهرت إلى السطح، هي انخراط الجيش الإسرائيلي بثقله في تجارة الألماس وعلاقته الوثيقة بتجارة السلاح في أفريقيا، كون أنّ تُجّار الألماس الإسرائيليين غالبيتهم جنرالات في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وضباط سابقون في الموساد هو العمل المزدوج بتجارة السلاح، حيث تعمل دولة الاحتلال مستغلة فساد زعماء في أفريقيا على توفير السلاح للحكومات الأفريقية والتدريب العسكري بالتوازي مع التجارة غير المشروعة في الألماس، كما يقدم هؤلاء السلاح الإسرائيلي على أنه الأكفأ الذي يمكن أن يصل أي مكان بمرونة في التوصيل والتعامل المالي، إذ يقبل الاحتلال بمبدأ مقايضة السلاح مقابل منح الشركات الإسرائيلية حقوقًا للتنقيب عن الثروات الباطنية والمواد الخام في هذه الدول الأفريقية، دون أيّ اعتبارات لمجالات استعمال هذا السلاح وإن كان سيستخدم في حروب أهلية أو إبادات جماعيّة أو انتهاكات حقوق الإنسان، لأسباب بديهيّة تتعلّق بطبيعة جيش الاحتلال الإسرائيلي نفسه.
هذا النهج الإسرائيلي تسبب في عقد صفقات لشراء الأسلحة غذّت بشكل كبير الصراعات والحروب الأهلية في الدول الأفريقية الغنية بالألماس، والتي يذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الناس خاصة في سيراليون والكونغو وأنغولا، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة لأن تطلق مصطلح "الألماس الدموي" على تجارة الألماس التي تدرّ أموالًا طائلة على اقتصاديات دول مثل إسرائيل في حين أنّها تأتي على حساب دماء آلاف الأبرياء.
الاحتلال الإسرائيلي كان على رأس من غذى هذه الصراعات في إطار توطيده للعلاقة مع زعماء أفريقيا، وقد اتهمت إسرائيل في العام 2009 رسميًا من قبل لجنة خبراء في الأمم المتحدة، بالتورط في استيراد الألماس بطريقة غير قانونية من أفريقيا، وتعد واحدة من أبرز الصراعات التي ارتبطت بالحرب الأهلية في أنغولا، والتي استمرت من السبعينيات حتى عام 2002، وكذلك الحرب الأهلية في سيراليون التي دامت عقدًا من الزمن، وبشكل عام يرتبط تعدين الألماس بانتهاكات حقوق الإنسان، إذ يعمل نحو 1.5 مليون شخص في أفريقيا وبعض أجزاء من أمريكا الجنوبية بالتعدين في ظروف غير آمنة وتحت تهديد العنف، وتقترن عمليات استخراج الألماس بعمالة الأطفال واستغلال القصر في ظروف إنسانية مزرية.
بريق بلون الدّماء.. الألماس الإسرائيلي يشعّ في دبي
يأخذوني من المطار مثل الدبلوماسي، وأتجول هناك بشكل حر، ولكن لا يتم تشخيصي كإسرائيلي، بل لدي بطاقة زيارة مع عنوان في نيويورك، وأنا أتحدث الانجليزية، وأتحدث بعض الكلمات العربية ويتم التعامل معي على أساس أني أمريكي، أما في بورصة الألماس فيعرفون أني اسرائيلي، وليس لديهم مشكلة في ذلك
هذا ما قاله أحد تجار الألماس الذين يتعاملون مع دبي ويصلون إليها بجوازات سفر إسرائيلية بالتنسيق مع مضيفين في البورصة.
لم يكن من الغريب أن تصل ثقة تجار الألماس الإسرائيليين بدولة الإمارات للمرحلة السابقة بعد السنوات الطويلة من التعاملات التجارية بينها وبين إسرائيل. بدأت هذه العلاقة مع تأسيس بورصة دبي للألماس عام 2004، أين فرضت هذه التجارة التي يهيمن عليها التجار اليهود تعاونًا حتميًا مع الإسرائيليين الذين تغولوا في صناعة الألماس، والذين وافقوا على قبول عضوية دبي في الاتحاد العالمي لبورصات الألماس في نفس العام، فقد كان من مصلحة تجار الألماس الإسرائيليين افتتاح سوق بدبي بديلة عن تراجع السوق الأمريكي بسبب الوضع الاقتصادي.
بيد أنّ دبي التي أرادت ضم الألماس لمتاجرها كي تصبح هذه الإمارة قبلة لهُواة المجوهرات الثمينة، قبلت تسهيل حركة رجال الأعمال الإسرائيليين داخلها، وانتقال رجال الأعمال الإماراتيين في المعارض وأسواق المال في الأراضي المحتلّة، وفتحت دبي أبوابها أمام تجوّل تُجار الألماس الإسرائيليين حتى أصبحت مركزًا لهم، وأبرزهم ملك الألماس ليف لفيف الذي كان يبني بأرباحه من هذه التجارة المزيد من الوحدات السكنية في مستوطنة تسوفيم على أرض جيوس في الضفة الغربية. وفي دُبي اختار لفيف العمل عبر شركة رجل الأعمال الفلسطيني عارف بن خضرا، مالك معروضات ليفانت في دبي، كذلك يمتلك قطب الألماس الإسرائيلي بيني شتاينميتز تجارته الخاصة لهذا المعدن الثمين في دبي، وشتاينميتز هو شريك لمجموعة "دي بير" في جنوب أفريقيا التي تسيطر عليها عائلة يهودية باعتبارها أكبر موزع للماس في العالم. انتهى/خ.
المصدر: ساسة بوست
اضف تعليق