سوق الصفارين او ما يعرف باللهجة العراقية الدارجة بسوق (الصفافير)، زاوية من زوايا التراث العراقي المهم الذي يعود تاريخه لعصر الحكم العباسية.
ويقع سوق الصفارين وسط العاصمة بغداد وهو عبارة عن مجموعة من المحلات المنتشرة في الأزقة الضيقة الواقعة في منطقة باب الأغا قريبا من الشورجة في شارع الرشيد مقابل مبنى جامع مرجان، وتباع فيهِ المصنوعات والأدوات النحاسية.
ترجع تسميته بهذا الاسم نسبة للصفر (معدن النحاس)، حيث يشتهر هذا السوق بصناعة الصحون والأواني المنزلية وأباريق الشاي والكاسات والملاعق، وإطارات الصور، والفوانيس النحاسية والنقش عليها.
سمفونية النقر على النحاس كانت أشبه بأنغام فيروزية تعزفها مطارق النحاسين بين أزقته مثل في مرحلة تاريخيه مرفقاً سياحياً وتراثياً للبغادة على مدى عقود من الزمن إلا ان آفة التطور والإهمال سرت لتنخر جسد هذا الموفق الحيوي وتطاول أوردته وسط تراجع المهنة لمحترفها وعزوف رواده عن الاستمرار في مؤشر خطير يهدد أزقه هذا السوق بالاندثار.
الحاج حسين النقاش واحد من ابرز أسطوات النقش النحاسي في سوق الصفارين يمتهن تلك الصنعة منذ أكثر من خمسين عاما حسب قولة، عشقه للنقش أفضى به لتوريث تلك المهنة لأبنائه وهو يسعى ليورثها لاحفاذه.
التطور ينسف المهنة
يقول النقاش أن "تطور العصر السريع لم يكون ايجابي على سوق الصفارين، فالسوق في حالة اندثار ربما يختفي أثره بعد سنوات قليلة"، لافتا إلى أن "أسواق مماثلة في دول أوربية وعربية أسلامية أضحت اليوم واجه تراثية وسياحية عكس ما هو الحال عليه في سوق الصفارين".
ويضيف، "الحرفين والعاملين في السوق بدأت أعدادهم بالانقراض، ومنهم من هجر المهنة لتراجع الإقبال عليها وقلة السياح ليمارس مهن أخرى توفر له لقمة العيش".
وتابع ان "عدد من الحرفيين هاجر لبلدان أخرى بسبب الكساد وقلة الإقبال الشعبي وشحه السياح، ناهيك عن غزو البضائع الأجنبية والعربية التي تباع بأسعار زهيدة قياساُ بالمنتجات المصنعة يدويا يرافق ذلك ضعف الدعم الحكومي".
مساعي لطمس التراث
ويروي النقاش محاولة عدد من الجهات الحكومية في دولاً عربية وخليجية بعد (2003) لاستقطاب الصناع والحرفيين العاملين في مهنة الصفارة ودعواتهم لترك العراق وأحياء المهنة في بلدانهم كجزء تراثي يحسب لهم وفق عروض مغرية وخطة متعمدة لطمس معالم هذا السوق التراثي.
انسلاخ تدريجي
الحاج عامر عبد المحسن الصفار حرفي أخر واحد رواد السوق القدامى تحدث لـوكالة النبأ للأخبار "عن حالة اليأس والإحباط التي أصابت حرفيي وصناع سوق الصفارين، ويعزو تلك الحالة لتراجع الحالة الاقتصادية، وحالة الكساد التي يعاني منها اغلب أصحاب المحلات الموجودة داخل السوق، ناهيك عن عزوف الناس بشكل عام عن شراء التحفيات والمصنوعات النحاسية واكتفائهم بالمستورد وتوقف حركة السياح".
ويضيف ممتعضاً "السوق لم يحتفظ بعنوان المهنة بعد دخول مهن أخرى، وتحول بعض المحال لبعض الأقمشة والمواد الاحتياطية، اذ فقد السوق عنوانه الجزئي دون اي اكتراث حكومي لتاريخ وتراث البلد".
ويعد سوق الصفارين احد أهم الأسواق والمواقع التراثية البغدادية، اذ كان يمثل قبله للكثير من السياح والوفود، وحطت رحالة الكثير من الشخصيات العالمية خطاها بين أزقته ليكون عنوان لتراث بغدادي لازال رغم الإهمال والتطور العصري عنوان لتاريخ شعبي حافل.
زيارات عالمية
يقول الكاتب الباحث في الشأن التراثي، علي الكناني، أن"سوق الصفارين كان نقطة لبداية حركة السياح والوافدين للعراق فقد شهدت أزقته زيارات كثيرة لشخصيات عالمية من ملوك وسياسين وفنانين وكتاب، ويذكر الكناني منهم "زيارة الممثل الأجنبي انتوني كوين، وزيارة الملك فيصل والوصي عبد الإله، والزعيم عبد الكريم قاسم.
ويضيف: "كما شهد السوق زيارة شخصيات أجنبية أمثال خافي رسولانا عندما كان وزير للخارجية الاسبانية وكذلك الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وزيارات لفنانين من مختلف العالم منهم فرقة يوسف وهبي وأمينة رزق، ويحيى الفخراني وصفية العمري ورغدة".
إهمال حكومي
الكناني عبر عن امتعاضه مما يشهده هذا المعلم التاريخي والتراثي من إهمال حكومي، وطالب الجهات الحكومية والمسؤولة عن هذا المرفق إلى أعطاء اهتمام وعناية بتطوير السوق والحفاظ على ما تبقى من حرفي ومهن تراثية عبر فتح دورات الاستعانة بمن بقى من رواد هذه المهنة ،وتدريب عناصر كفؤة في مختلف الاختصاصات التراثية التي تعتمد على المعرفة والصنعة للمحافظة على أصالة وعراق المهنة من الانقراض والزوال.
أسواق مماثلة
وأضاف "مسؤولية أحياء هذا السوق تقع على عاتق أمانه بغداد بالاشتراك مع هيئة السياحة والآثار إضافة لمسؤولية وزارة الثقافة"، لافتا إلى آن أسواق مشابهة لسوق الصفارين في دولة اقليمة تستقطب العديد من الزوار والسياح وتحظى باهتمام بالغ بأعتبارها مرفق تراثي وسياحي مهم يمثل واجه البلد كما هو الحال في سوق الحميدية في سوريا وسوق خان الخيلي في مصر".
وأبدى الكناني مخاوفه من أن "يستمر الإهمال في هذه السوق لينتهي الأمر لانحسار مهنة النحاس في هذا السوق المفعم بالقدم والأصالة، وتحول ورشه لسوق لبيع الأقمشة وغيرها من المواد الأخرى وانتهاء حرفييه وصناعه إلى مجرد باعة يمتلكون الخبرة والموهبة لكنهم لا يتقنون سوى عمليات البيع والشراء والمتاجرة بالتحفيات كانوا بالأمس هم احد صناعها ومبدعيها".
مسؤولية مشتركة
واقترح الكناني على الجهات المسؤولة لتنسيق الجهود والنهوض بهذا المرفق التراثي والسياحي المهم وان تسعى تتلك الجهات وفي مقدمتها أمانة بغداد للحافظ على السوق وإعادة تأهيله، وأقامه المعارض التراثية الخاصة بمنتجات السوق داخل العراق وخارجه.
وأوضح الكناني أن "أمانة بغداد هي الجهة الأولى المسؤولة عن تأهيل السوق والمحافظة على تراثيته من الاندثار وتفعيل دورها في ذلك حيث أكدت الأمانة في هذا الإطار إلى أن مساعيها مستمرة في العمل ضمن قانون إجازة الاستغلال التي اقرها قانون التصميم الأساسي لمدينة بغداد والذي ينص على عدم استغلال محال السوق لمهن أخرى كبيع القماش وغيرها في محاولة لإنقاذ السوق من الاندثار".
ويعود تاريخ سوق الصفافير في بغداد إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛ فترة الخلافة العباسية وبالتحديد إلى عهد الحاكم العباسي المستنصر بالله (1226-1242)، الذي آمر بإنشاء أسواق عدة متخصصة كأسواق الوراقين والبزازين والعطارين وسوق الصفافير، وكان الغرض من إنشائها هو توفير المتطلبات اللازمة لطلبة وأساتذة المدارس في ذلك الوقت.
وكان سوق الصفافير يمدهم بما يحتاجون من فوانيس وقناديل وغيرها من الأواني والقدور وغيرها. ويذكر الذين تعرضوا لتاريخ بغداد أن السوق كان مكاناً مناسباً لتعويد الخيول العسكرية على ضجيج المعارك، إذ كانت تمرر في السوق وسط ضجيج طرق المعادن لكي لا تفر أثناء الحروب عند سماعها صليل السيوف.
اضف تعليق