دعا ممثل المرجع السيستاني الشيخ عبد المهدي الكربلائي "الحاكمين ومن في المسؤولية بالعراق" الى تحقيق "رضا الغالبية الساحقة من الناس لا الاقلية من المقربين من الحاكم سواء أكانوا من حزبه او من بطانته ام من اصحاب الثروة والمال أم من اصحاب النفوذ أم من المتملقين وغيرهم".
وقال الشيخ الكربلائي خلال الخطبة الثانية لصلاة الجمعة "إن الغالبية من الناس تقع على ايديهم تحريك عجلة الحياة في المجتمع ويدافعون عن البلد ويحمون مقدساته ويصونون اعراض مواطنيه ويعملون ويتعبون انفسهم اكثر من الاخرين ويحبون بلدهم ويتفانون في خدمته هم الطبقة الساحقة من عامة الناس".
وبين ممثل المرجع السيستاني خلال نص خطبته من الصحن الحسيني الشريف ما نصها:
ايها الاخوة والاخوات. نقرأ على مسامعكم الكريمة مقطعاً آخر من عهد امير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر يتضمن مبادئ مهمة للحكام والساسة يُضمَنُ من خلالها استقرار الوضع السياسي وانتظام امور الرعية واستقرار الاوضاع العامة وتحقيق العدالة والتقدم لعموم المجتمع.
مع شرح لفقراته.
(أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ).
(أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ)
انصاف الله العمل بأوامره والانتهاء عن زواجره مقابلا ً بذلك نعمه.
وهو اول الانصاف فإنه سبحانه قد أنعم علينا نعماً لا تحصى، فليس من الانصاف ان نعصيه بها ونكفر نعمه وان لا نرضى لأنفسها إلا بحقائق الدين الصادقة ومعارف الهدى الحقة فنعبد الله بما يحب ويرضى.
وان نختار ما اختار لنا واصطفى من ائمة الحق لأنه سبحانه اختارهم بعد علم بإنصافهم وصدقهم وطهارتهم وطيبهم وليس من الانصاف ان نتركهم فنقتدي بغيرهم فضلا ً عمن عاداهم.
(وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ)
ثم ذكّره بأن يكون هدفه وغايته إقامة العدل وإحياء الحق وهي الغاية التي من أجلها أرسل الله تعالى الانبياء والرسل حتى ينعم الناس بالعدالة والمساواة فبالعدل فقط تقوم الانظمة وتستمر ويصير للحياة طعمها ومفهومها ومعناها وتستقر الاوضاع عامة وتعمر الارض ويتطور الانسان.
وانصاف الناس اقامة العدل فيهم (في الحكم والقضاء والعطاء) والخروج اليهم من حقوقهم اللازمة لنفسه ولأهل خاصته فيترك كل اشكال التمييز والميل والمحاباة واعطاء الامتيازات والمكاسب لبعض الافراد دون بعض فيؤثر نفسه واخاصة اهله ومن له فيه هوىً وميل ورغبة وقرابة على بقية الرعية فيعطيهم الامتيازات في المال والمكاسب والثروة والمنصب على حساب الغير.
ومن الطبيعي ان هذا العمل ليس بالهيِّن واليسير لأن الانسان يميل دوماً نحو ترجيح كفة نفسه واقربائه ومن له هوىً وميل على كفة الآخرين إلا من كان له ورع وخوف من الله تعالى ومراقبة للنفس.
ومن هنا ورد عن الامام الصادق (عليه السلام):
(سيد الاعمال ثلاثة: انصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء إلا رضيت لهم مثله).
وقال (عليه السلام) لأحد اصحابه: (ألا اخبرك بأشد ما فرض الله على خلقه، قلت: بلى، قال: انصاف الناس من نفسك ومواساتك اخاك وذكر الله في كل موطن).
(فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ)
واحتج (عليه السلام) على وجوب ذلك الانصاف بقوله: (فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ).
ادحض: أظهر البطلان للحجة. بمعنى عدم قبول العذر.
ينزع: يعني قلع وفصل الشيء وتركه.
واضاف الكربلائي ان ترك الانصاف والتمييز بين الرعية وعدم انصاف الحاكم لرعيته من نفسه ومن خاصة اهله ومن له فيهم هوىً يعتبر من الظلم الفاحش والجلي، وحيث ان الله تعالى عادل وحكيم وعدو للظالمين ونصير للمظلومين ولا يرضى لعباده الظلم، فإن الله تعالى سيكون خصمه فلا يقبل منه عذر ولا حجة.
ومعنى ذلك انه – ربما- يملك الشخص المذنب بعض الاعذار قد لا تكون مقبولة في ذنوب اخرى ولكن تشمله رحمة الله تعالى ولطفه فتكون اعذاره مقبولة ويغفر الله تعالى له ولكن بالنسبة للظلم والجور لا يقبل منه أي عذر وذريعة والطريق والوحيد للنجاة من خصومة الله تعالى وعقوبته ان يرفع الانسان الظلم عن المظلوم ويعيد حقوق الناس اليهم.
(وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ)
ويلزم من الإقامة على الظلم هو الاسراع الى تغيير نعمة الله تعالى وذلك لأن الله تعالى يسمع دعوة المظلوم ويطلع على فعل الظالم.
وهذا الكلام يعدّ تحذيراً شديداً للظالمين ليعلموا ان عقوبتهم لا تنحصر بيوم القيامة بل سيواجهون جزاء اعمالهم في هذا العالم ايضاً وليس لأجل طويل بل في مدة قصيرة، فإن ما يسرع في تغيير النعم الإلهية وينزل العقوبة والعذاب الالهي هو الاقامة والاستمرار على الظلم والاصرار على العدوان وسحق حقوق الآخرين.
جاء في الحديث الشريف عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (أسرعُ الخير ثواباً البِّرُ وصِلَةُ الرحم وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم).
وقال (عليه السلام) (عليه السلام): (من عمل بالجور عَجّلَ الله هُلكَهُ).
(وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)
أمر امير المؤمنين (عليه السلام) مالك الاشتر بأن يكون احب الامور اليه اقربها الى الوسط من طرفي الافراط والتفريط وهو الحق واعمّها للعدل واجمعها لرضاء الرعية فإن العدل قد يوقع على وجه لا يعم العامة بل يتبّع فيه رضاء الخاصة، ونبّه (عليه السلام) على لزوم العدل العام لرضاء الرعية وحفظ قلوب العامة وكسب رضاهم وودهم بوجهين:
احدهما: إن سخط العامة لكثرتهم لا يقاومه رضاء الخاصة لقلتهم بل يجحف به (أي يذهب به) ولا ينتفع برضاهم عند سخط العامة، وذلك يؤدي الى وهن الدين وضعفه.
اما سخط الخاصة فإنه مغتفر وهيِّن ومستور عن رضاء العامة فكان رضاهم أولى.
الثاني: انه وصف الخاصة بصفات مذمومة تستلزم قلة الاهتمام بهم بالنسبة الى العامة ووصف العامة بصفات محمودة توجب العناية بهم.
أما صفات الخاصة:
1- كونهم أثقل مؤونة على الوالي في الرخاء لتكلفه لهم ما لا يتكلفه لغيرهم. فمطالباتهم لا تعد ولا تحصى ولا يرضون بالقليل من الامتيازات والمكاسب والاموال فكلما نالوا شيئاً منها طالبوا بالمزيد.
2- كونهم أقل معونة له في البلاء لمحبتهم الدنيا وعزّة جانبهم.
فعند بروز المشكلات والازمات والمحن يسحبون انفسهم ويتركون البلد عرضة للمصائب والتحديات لعامة الناس فهم يعتبرون انفسهم الصفوة والنخبة ولا يمكن ان تسير امور البلد بدونهم.
3- كونهم أكره للإنصاف لزيادة اطماعهم في الدنيا على العامة.
ولأنهم يعتقدون انهم الشريحة الممتازة والنخبة المفضلة فلا ينبغي ان يجعلوا كالآخرين مساومين لهم في الحقوق.
4- وكونهم اسأل بالإلحاف (الالحاف شدة السؤال والاصرار فيه) لأنهم عند الحاجة.
فهم قريبون من الحاكم ولشدة حرصهم على الدنيا ولتصورهم انهم يستحقون اكثر من الرعية لشعورهم بانهم افضل من غيرهم يلحون في السؤال.
5- كونهم اضعف صبرا عند ملمات الدهر لتعودهم على حياة الرفاهية والتنعم والملذات وجزعهم على فوات ما في أيديهم من الدنيا. على عكس عموم الناس الذين تربوا وعاشوا في اجواء المحن والمشكلات والفقر والعوز فصار لهم القوة والصبر والتحمل للمصاعب والمحن.
والمحصّل: ان الامام (عليه السلام) يلفت الى نقطة مهمة ومؤثرة في حياة الرعية وعموم الناس وهي ان القوانين والمقررات وسياسة الحاكم ان امتلكت هذه الخصوصيات الثلاث تكون اشمل من حيث الحقوق ومن حيث رعاية العدل وافضل في كسب رضا عامة الناس وجمهور الشعب.
فإنها ستقع مورد رضى الله تعالى والخلق.
وعندما يكون الله تعالى راضياً عن حكومة معينة وخلق الله تعالى راضون عنه فإن ذلك يضمن بقائها ودوامها.
وبين الشيخ عبد المهدي الكربلائي ان مختصر كلام امير المؤمنين (عليه السلام) ان المهم هو تحقيق رضا الغالبية الساحقة من الناس لا الاقلية من المقربين من الحاكم سواء أكانوا من حزبه او من بطانته ام من اصحاب الثروة والمال أم من اصحاب النفوذ أم من المتملقين وغيرهم.
موضحا، ان ثبات واستقرار الحكومات والانظمة السياسية مرهون بهذه السياسة المبنية على الامور الثلاث.
فإن الغالبية من الناس تقع على ايديهم تحريك عجلة الحياة في المجتمع ويدافعون عن البلد ويحمون مقدساته ويصونون اعراض مواطنيه ويعملون ويتعبون انفسهم اكثر من الاخرين ويحبون بلدهم ويتفانون في خدمته هم الطبقة الساحقة من عامة الناس.
ولذلك اذا رجح الوالي رضا الطائفة الاولى من الخاصة وهم الاقلية على حساب غضب عامة الناس وسخطهم فحينئذ تتعرض اركان الحكومة للضعف والتخلخل والاهتزاز واذا استمر واشتد سخط العامة من الناس فسوف ينتهي بهم الأمر الى الثورة والانتفاضة ضد الوضع الحاكم. انتهى/ خ11.
اضف تعليق