في الواحدة من ظهر الثلاثاء 2 أكتوبر (تشرين) الجاري، دخل الكاتب السعودي جمال خاشقجي القنصلية السعودية في تركيا لإنجاز "أوراق رسمية"؛ قبل أن يختفي بعد دخولها وسط تداول أنباء عن وصوله السعودية، التي غادرها منذ عامين على إثر آراء مخالفة له تجاه سياسات ولي العهد السعودي، ذلك على الرغم من إشادته الدائمة به كشخص وحاكم جديد.
وكانت وكالة الأنباء السعودية الرسمية نقلت في وقت سابق الثلاثاء خبرًا يفيد باسترداد "متهم في قضية احتيال بشيكات من دون رصيد"، إلا أنها لم تذكر صراحةً ما إذا كان خاشقجي المعني بالخبر.
من دوائر السلطة إلى شتات المنفى
في سبتمبر (أيلول) 2016، قرر جمال خاشقجي، الكاتب السعودي ذائع الصيت في العالم العربي الخروج من جدران المملكة بعدما تحسس على ما يبدو سياسة أمنية جديدة لولي العهد السعودي قائمة على اعتقال كُل ماهو مخالفٍ لسياسته دون اعتبار لهيئته وصلاته.
جاء خروجه قبل موجة الاعتقالات الواسعة التي طالت أمراء من آل سعود ورجال أعمال بارزين فيما رآه كثيرون مؤشرًا على رغبة ولي العهد على تشكيل نخبة مالية وسياسية وفكرية جديدة من خارج العائلة الحاكمة.
تعمق لدى خاشقجي هذا الشعور بعدما التقى ولي العهد السعودي في منتصف 2016 حين أعلن عن رؤية 2030، مع 30 مثقفًا وصحافيًا وشيخًا من مشارب أيدولوجية متباينة؛ وأدرك معها أنه سيكون واحدًا من المجموعة التي يرى أنها محسوبة على الجناح القديم من العائلة، والتي قرر ولي العهد الخروج على تقاليدها، وتنحية أغلبهم من مواقعهم النافذة مقابل منح نخبة جديدة مُقربة منه نفوذًا واسعة ومناصب قيادية.
وكما يقول هو، فقد صدقت توقعات خاشقجي بعد هذا الاجتماع؛ بعدما وجد -بعد خروجه من المملكة- أن اثنين ممن حضروا معه اجتماع المثقفين في المعتقل حاليًا، هما عصام الزامل وخالد العلكمي.
أدرك خاشقجي أن ولي العهد لن يكون على درب أبناء عمومته الذين أسس علاقات وثيقة معهم؛ ليبدأ في ترتيب أموره حتى نجح في الخروج من المملكة وذلك بعد أشهرٍ من اتصال تليفوني من مسؤول أمني بالديوان الملكي ومُقرب من ولي العهد يأمره بالصمت، وقبل أن يتبع هذا الاتصال قرار من جريدة "الحياة" السعودية بوقف نشر مقالات الكاتب كإجراء عقابي له.
لم يكن خاشقجي يومًا بعيدًا عن أمراء آل سعود؛ فهو السعودي الذي أجاد فنون الكتابة ونسج العلاقات معهم ليستأمنوه على إدارة كُبرى وسائل الإعلام التي تُعبر عن الصوت الرسمي للمملكة ويصير رئيسًا لتحرير كُبرى الصحف السعودية، وينتقل بعد ذلك ليعمل مستشارًا إعلاميًا للأمير تركي الفيصل، السفير السعودي السابق في بريطانيا، ثمّ في الولايات المتحدة.
كما كان خاشقجي أحد المقربين للأمير وليد بن طلال الذي اختاره رئيسًا لمحطته التلفزيونية التي كان الممول الرئيسي لها قبل أن يتعثر المشروع في ضوء أسباب سياسية، لم تنقطع علاقة ابن طلال مع خاشقجي بعد مغادرة الأخير للبلاد، وقد طالبه الأمير قبيل اعتقاله بالعودة قائلًا: "أخي جمال، البلاد بحاجة إلى عقول نيرة مثلك، والآن الدولة السعودية الرابعة تُبنى بيد أخي محمد بن سلمان".
كما لم يكن خاشقجي في رحلته خارج المملكة -التي تنقل فيها بين واشنطن وتركيا- معارضًا لآل سعود كحال الأمراء المنشقين عن الأسرة الحاكمة أو النشطاء السعوديين الذين يعيشون في أوروبا ويؤكدون على ضرورة تفكيك النظام الحاكم؛ بل كان متبنيًا لرؤية إصلاحية من داخل النظام الذي يتمسك بأفراده ويرى في وجودهم استمرارًا لوجود المملكة، وناقدًا لسياسات ولي العهد "حديث الخبرة في السياسة".
يظهر ذلك فيما ذكره خاشقجي خلال حواره مع "ساسة بوست" خلال وجوده فى العاصمة الأمريكية حيث أجاب على سؤال يتعلق باحتمالات وجود انشقاق على ولي العهد السعودي قائلًا : "أستبعد تمامًا أي انشقاقات أو إجراءات عزل، أقوى شرعية بيد الأمير هو مبدأ "ولي الأمر"، والملك سلمان -حفظه الله- يستمتع بذلك، وأبناء الأسرة المالكة والجيش والأمن يدينون له بالولاء استنادًا على هذا المبدأ، وسمو ولي العهد يستمد قوته من تكليف والده الملك، مسألة الملك وولاية العهد حسمت في السعودية، ولا يوجد من يعارضها، أو لنقل من يستطيع داخل الأسرة أن يعارضها".
ابن سلمان يطارد خاشقجي.. ويظفر به
لم تكن خطوة الاعتقال الأخيرة من داخل القنصلية السعودية في تركيا هي أولى محاولات ولي العهد السعودي لإسكات خاشقجي؛ إذ سبقها خطوات نفذها لتجريده من كافة صلاحياته وأدواره. كانت أولى هذه الخطوات تجميد مشروعه التلفزيوني قناة "العرب" الإخبارية التي تأسست بتمويل من الأمير السعودي الوليد بن طلال، ورئاسة خاشقجي، والتي صدر بشأنها أوامر بوقف البث في البحرين قبل أن ينتقل مقرها إلى قطر، التي منحتها كافة التسهيلات المطلوبة.
سعى ولي العهد السعودي إلى تجميد مشروع القناة، لينجح في إغلاقها، بعد حملة انتقادات واسعة من جانب وجوه سعودية إعلامية معروفة بولائها له، كداود الشريان، الذي سبق له إجراء المقابلة الأولى مع محمد بن سلمان على شاشة قناة العربية، كانت هذه الحملة من المجموعة الإعلامية الجديدة الموالية لولي العهد السعودي مؤشرًا على رغبة ولي العهد السعودي في إنهاء نفوذ خاشقجي عبر إسكاته تمهيدًا لاعتقاله.
فضلًا عن ذلك، فقد صدر قرار ملكي بوقفه عن الكتابة في الصحف السعودية كافة بالأمر المُباشر، وتوقيف حسابه على موقع "تويتر" حتى نجح في الخروج خارج بلاده، وواصل نشاطه الإعلامي عبر الكتابة في كُبرى الصحف الأمريكية، والظهور على المحطات الفضائية العالمية، حتى نجحت سلطات ولي العهد السعودى في الإيقاع به بعد عامين من خروجه من القبض عليه خلال وجوده داخل القنصلية السعودية في تركيا، وفقًا للأنباء الواردة حتى هذه اللحظة.
قد يؤشر اختطاف خاشقجي من داخل الأراضي التركية على أزمة دبلوماسية تلوح في الأفق بين تركيا والسعودية، خصوصًا بعدما أعلنت الشرطة التركية عن فتحها تحقيقًا في قضية اختفاء الكاتب السعودي المقيم على أراضيها، بعدما تحققت من كاميرات المراقبة التي أظهرت أن خاشقجي غادر مبنى القنصلية بعد 20 دقيقة من دخولها، وهو ما يُرجح من تعرضه لعملية اختطاف.
وقد ذكرت خطيبة خاشقجي في اتصال هاتفي مع موقع "الجزيرة نت"، أنها على اتصال مباشر بالرئاسة التركية في أنقرة التي تعهدت لها بالعمل على كشف لغز اختفائه بعد دخول القنصلية عند الساعة الواحدة ظهر اليوم لإتمام بعض المعاملات الرسمية.
ويبدو أن المملكة ستكون على محطة جديدة للخلاف مع السلطات التركية في قضية اختطاف الرجل من على أراضيها بشكل ينتقص من سيادة أنقرة، وإن كان البعض يدور في ذهنه احتمال آخر يتعلق بتواطؤ تركيا مع المملكة في تسليم خاشقجي وهو ما سيتضح بعد صدور رد الفعل التركي الرسمي الذي لم يخرج بشكل رسمي إلى الآن.
وقد أشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن المتحدثين باسم وزارتي الخارجية التركية والسعودية لم يردوا على الرسائل التي تطالبهم بالتعليق على مكان وجود خاشقجي المحتمل، ناقلة ذلك عن شهادات من أقارب ومعارف تجمعوا خارج القنصلية بعد إغلاقها في العاشرة مساءً وسط غموض يلف مصيره، وفقدان الاتصال به. انتهى/خ.
اضف تعليق