قال الكاتب كولن كلارك في مقال له على موقع مجلة “فورين بوليسي”: إنه على الرغم من تمكن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة من طرد تنظيم (داعش) من معظم الأراضي التي يسيطر عليها، إلا أن التنظيم تمكن من إيجاد مصدر تمويل جديد.
وأوضح كلارك أن التنظيم يسعى إلى السيطرة مجددًا على المناطق ذات الأغلبية السنية في العراق وسوريا. والسبب الرئيسي هو وجود احتياطي تمويل، إلى جانب مهارته في تطوير تدفقات جديدة من الإيرادات. اعتاد “داعش” الاعتماد على الأراضي التي يسيطر عليها، لجمع مليارات الدولارات من خلال الابتزاز والضرائب والسطو وبيع النفط. لكن المجموعة أثبتت أنها قادرة على جني المال حتى من دون السيطرة على المراكز السكانية الكبيرة.
خلال أوج قوته في عام 2015، جمع “داعش” ما يقرب من 6 مليارات دولار، ليصبح أغنى جماعة إرهابية -كما وصفها الكاتب- في التاريخ. يتساءل كلارك: كيف تمكن التنظيم من جمع ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة؟ اعتمد التنظيم في جمع الأموال على ثلاثة مصادر رئيسية: النفط والغاز، وقد بلغ مجموع الإيرادات نحو 500 مليون دولار في عام 2015 من خلال المبيعات الداخلية. والضرائب والابتزاز، التي حصدت حوالي 360 مليون دولار في عام 2015؛ ونهب الموصل في عام 2014، إذ سرق التنظيم حوالي 500 مليون دولار من خزائن مصرفية.
تواجد التنظيم بات محدودًا للغاية
اليوم –يشير كلارك– أصبح تواجد “داعش” محدودًا للغاية. إذ انتقل التنظيم من السيطرة على الأراضي التي تعادل تقريبًا حجم بريطانيا العظمى إلى محاولة الصمود، بينما كان تحت الحصار في معاقله قرب وادي نهر الفرات. لقد تمكن التحالف الدولي من هزيمة التنظيم الإرهابي في الشرق الأوسط، وقضى على أحلام زعيمه أبي بكر البغدادي، بإقامة خلافة إسلامية في قلب المنطقة. وقد انخفض تدفق الإيرادات انخفاضًا كبيرًا من الضرائب والابتزاز وبيع النفط على إثر ذلك.
ومع ذلك، لم يعد التنظيم يعتمد على الأرض لبقائه الاقتصادي. وذلك في جانب منه لأن قيادته الباقية ربما تمكنت من تهريب ما يصل إلى 400 مليون دولار من العراق وسوريا. سيسعى التنظيم إلى غسل هذه الأموال من خلال شركات وهمية في المنطقة، وخاصة في تركيا. ويمكنه تحويل بعض النقود إلى الذهب وتخزينه للبيع في المستقبل.
ولكن حتى مع انخفاض إيرادات التنظيم –يستدرك كلارك– فإن نفقاته انخفضت هي الأخرى مقارنة بما كانت عليه منذ أكثر من عام. فما عاد لديه حكومة مسؤولة عن الرعاية الصحية، والتعليم، ودفع رواتب الموظفين، وتوفير الأشغال العامة. ومع انخفاض النفقات بشكل كبير، فإن الأموال التي تم تكديسها ستوفر للمجموعة ما يكفي من المال لشن حملة طويلة من حرب العصابات في جميع أنحاء العراق وسوريا.
وقد استثمر “داعش” أمواله في محفظة تمويل متنوعة –يواصل كلارك حديثه– فقد ابتكر خططًا لجمع الأموال عبر مجموعة من الأنشطة الإجرامية الجديدة، بما في ذلك الابتزاز، والاختطاف من أجل الحصول على فدية، والسرقة، وتهريب المخدرات، والاتجار في الآثار. وهي أنشطة لا تتطلب الاحتفاظ بالأراضي، ولكن هناك مخاطر مرتبطة بأفراد التنظيم، الذين يمكن أن يتم القبض عليهم. بيد أن فرص التعرض للاعتقال ضئيلة، لأن قوات الأمن في العراق أو سوريا عاجزة عن القيام بواجباتها التي من شأنها ردع الجريمة على نطاق واسع. في المستقبل القريب، يمكن للمجموعة العودة إلى أساليب ابتزاز السكان الذين يعيشون في مناطق سيطرة الحكومة. خلال سنوات انتصاراته، جمع أعضاء الدولة الإسلامية بدقة بيانات شخصية عن السكان تتضمن معلومات مفصلة عن الممتلكات والدخل، بالإضافة إلى عناوين أفراد العائلة الممتدة. هذا سيزود التنظيم بالمزيد من النفوذ في تخويف المدنيين وابتزازهم، مما يسمح له بتجديد الاحتياطي النقدي.
تهديد عملية إعادة الإعمار في سوريا والعراق
هناك طريقة أخرى يمكن أن يستمر بها “داعش” في كسب المال دون الاحتفاظ بالأرض، كما يؤكد كلارك، وذلك عن طريق ابتزاز شركات إعادة إعمار الموصل وغيرها من المدن المدمرة. وهو ما أتقنه كل من تنظيم القاعدة وداعش، إذ عملا على ابتزاز شركات البناء التي تحاول المساعدة في إعادة بناء المدن والبلدات والقرى التي تحاول التعافي من سنوات الصراع الطائفي الوحشي في العراق. لم يتمكن أي من التنظيمين السابقين من السيطرة على مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة. لكن بين عامي 2006 و2009، تمكنا من جمع مبالغ كبيرة من المال عن طريق ابتزاز شبكات توزيع النفط المحلية والإقليمية.
وقد يلجأ تنظيم “داعش” إلى هذه الحيلة مجددًا خلال السنوات القليلة القادمة، إذ يسعى المجتمع الدولي إلى إعادة إعمار العراق وسوريا بعد عقد من الحرب الأهلية. إن إعادة الإعمار في المناطق التي مزقتها الحرب، رغم حسن نواياها، يمكن أن توفر هدفًا جذابًا لداعش، وربما تساعد في تمويل عودته، وهو أمر يمكن أن تحققه الجماعة حتى بدون احتلال الأراضي. سيكون من السهل على “داعش” أن يبدأ في إفساد عقود إعادة الإعمار. فالمتمردون سيحتاجون ببساطة إلى إقامة صلات مع المسؤولين المحليين المرتبطين بمشاريع إعادة الإعمار، وإدخال عناصرهم الخاصة في سلسلة الإمداد، مع الحصول على مبالغ مالية مختلفة في كل خطوة من خطوات العملية. وسيعمل المتشددون على ضمان اكتمال المشروع في نهاية المطاف، وإن كان ذلك بسعر مبالغ بسبب الأموال التي استولوا عليها.
لكن تنظيم “داعش” ما يزال يسعى إلى السيطرة على الأرض، كما يقول كلارك. إذ يسعى التنظيم إلى استعادة السيطرة على الأصول النفطية حول دير الزور. ووفقًا لتقرير صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في يوليو (تموز)، استعاد التنظيم السيطرة على حقول النفط في شمال شرق سوريا، وهو مستمر في استخراج النفط ليستخدمه مقاتلوه، ويبيعوه للسكان المحليين. ولكن حتى بعد تحرير هذه الحقول، بمساعدة القوات الأمريكية، سيعود “داعش” ببساطة إلى الأنشطة الإجرامية التي لا تتطلب الاحتفاظ بالأراضي.
إن الجمع بين الأصول الحالية والقدرة المستقبلية على كسب المال سيسمح للتنظيم بإعادة ترتيب صفوفه، إذ بدأ بالفعل في الظهور في أجزاء مختلفة من العراق وسوريا. في كركوك بشمال العراق، وضع المسلحون نقاط تفتيش وهمية لنصب كمين لقوات الأمن العراقية العاملة في المنطقة في وقت سابق من هذا العام. وفي أجزاء أخرى من العراق، بما في ذلك ديالى وصلاح الدين، تقوم خلايا التنظيم النشطة بمراقبة واستطلاع هذه المناطق لتحديد أفضل السبل للعمل قبل إعادة تنظيم تشكيلات صغيرة من المقاتلين. وعلى الرغم من الغارات الجوية الأمريكية، لا تزال جيوب المقاتلين متحصنة في حجين، شمال البو كمال، ودشيشة في سوريا.
يتعامل الغرب مع الحرب ضد “داعش” على أنها تنقسم إلى مراحل –يختتم كلارك مقاله– لكن بالنسبة للجهاديين، فهي حملة طويلة واحدة منذ الأيام الأولى لمؤسسها أبي مصعب الزرقاوي. وإلى أن تعترف الولايات المتحدة وحلفاؤها بذلك، من المرجح أن يكرر التنظيم استراتيجية اللجوء إلى الخفاء قبل العودة إلى الظهور مجددًا بعد انسحاب قوات الولايات المتحدة بالكامل، أو إلى أن تتمكن المجموعة مرة أخرى من استعادة السيطرة على ما يكفي من الأراضي لإعادة بناء المرحلة المقبلة من مشروع الخلافة.انتهى/س
اضف تعليق