ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، كلمة مهمّة، بوفود تشكّلت من مسؤولي الروضة الحسينية المطهّرة، كان منهم السيد رياض نعمة سلمان مسؤول المواكب الحسينية في الروضة، ومن وجهاء مدينة كربلاء المقدّسة، ومسؤولي وأصحاب المواكب الحسينية فيها، الذين زاروا سماحته في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، صباح يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الثاني1437للهجرة (21/1/2016م)، إليكم نصّها الكامل:
أساس الإسلام
قال الله تعالى في القرآن الحكيم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ) سورة الأنفال: الآية45.
هذه الآية الكريمة تعني الثبات والتحدّي في إطار الفضيلة. وهذا هو أساس الإسلام، وهذا هو الذي أكّد عليه القرآن الكريم، ومثّله أفضل تمثيل رسولُ البشرية، أفضل الأنبياء والمرسلين، ومن بعده مثّله كذلك أفضل تمثيل نفس رسول الله صلى الله عليه وآله، سيّد الوصيين الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
الثبات والتحدّي
لقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وآله في ابتداء البعثة، للكثير والكثير من عذاب المشركين، وإيذائهم له وتطاولهم عليه صلى الله عليه وآله بصنوف العذاب والتطاول. وفي كل ذلك كان صلى الله عليه وآله ثابتاً، صامداً، متحدّياً لكل المشكلات، ومتقيّداً بالفضيلة كل تقييد. وتحمّل صلى الله عليه وآله كل المشكلات ولم تصدر منه صلى الله عليه وآله خشونة صغيرة على أحد. حتى ان المشركين جاؤوا إلى أبي طالب رضوان الله وسلامه عليه، وأرسلوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، لكي يكفّ صلى الله عليه وآله عن تبليغ الرسالة، لقاء أنواع وأنواع من المال والمنصب وكل شيء. فقال صلى الله عليه وآله كلمته التي لا تزال تدوّي في التاريخ، وتدوّي في مستقبل التاريخ، وتصنع المجاهدين والمؤمنين في كل زمان ومكان، ويتحدّون ويثبتون، وهي قوله صلى الله عليه وآله: «ياعمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر مافعلت». وهذا يعني التحدّي العظيم والثبات الكبير في إطار الفضيلة.
من أعظم خصائص نبيّ الإسلام ووصيّه
إن التاريخ سجّل بأن كل حروب رسول الله صلى الله عليه وآله كانت دفاعية، ولم يبدأ صلى الله عليه وآله حرباً إطلاقاً.
كما سجّل التاريخ أنه لما أجمع المشركون على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله، هاجر صلى الله عليه وآله بأمر من الله تعالى إلى المدينة، فتبعه المشركون مئات الكيلومترات إلى المدينة المنوّرة ليقتلوه صلى الله عليه وآله ويقتلعوا الإسلام من جذوره، لكنهم لم يفلحوا.
ثم جاء صلى الله عليه وآله ظافراً منتصراً إلى مكّة المكرّمة، في فتح مكّة، وكانت أيدي الألوف من المشركين ملطّخة بدماء المؤمنين الذين قتلوا، في مكّة المكرّمة، في عمليات التعذيب التي كان يتعرّضون لها، أو في المدينة المنوّرة في الحروب المفروضة على رسول الله صلى الله عليه وآله. فأصدر رسول الله صلى الله عليه وآله عفواً عاماً للجميع بكل فضيلة وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ولو كان غير رسول الله صلى الله عليه وآله في مكانه صلى الله عليه وآله وكان قد تعرّض لما تعرّض له صلى الله عليه وآله خلال عشرين سنة وأكثر، من المشكلات الكبيرة من المشركين من أهل مكّة والكفّار من النصارى واليهود، لو كان غيره في هذا الموقع لنصب مئات المشانق، ولقتل الألوف من المشركين في مكّة المكرّمة، ولكن لم يقتل أحداً لأنه صلى الله عليه وآله أسّس إطار الفضيلة. وعلى هذا الإطار سار أوّل الوصيّين الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ففي الحروب الثلاث الظالمة التي فرضت على أمير المؤمنين صلوات الله عليه في حرب الجمل وصفين والنهروان، التي خرج أمير المؤمنين صلوات الله عليه من جميعها بانتصار، لم يعاقب صلى الله عليه وآله أحداً بعد تمام هذه الحرب وانتهائها، وكان في متناوله أن يفعل كل شيء. وهذه الفضيلة التي تقيّد بها بكل إصرار رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، مع التحدّي والثبات، لو كان غير أمير المؤمنين في مكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه، في تلك الحروب الظالمة، وكان ينتصر، لنصب، أيضاً، المئات من المشانق، ولقتل الألوف والألوف.
حكومتان في منتهى الفضيلة
إنّ أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله سجّلوا أشياء كاذبة على رسول الله، حتى قال صلى الله عليه وآله: «كثرت عليّ الكذّابة وستكثر من بعدي»، ومع ذلك لم يسجّلوا في كل تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله، قتيلاً سياسياً واحداً. وهذا أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله، لم يسجّل عليه أعداؤه حتى قتيلاً سياسياً واحداً. ولم يكن لرسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، في كل تاريخهما المشرق، سجين سياسي واحد. فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وآله قرابة عشر سنوات، وحكم الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه البلاد الإسلامية الوسيعة في زمانه، مما يقدّر بخمسين دولة في خريطة العالم اليوم أو أكثر، لم يسجّل عليه سجين سياسي واحد. وهذه الفضيلة، بل منتهى الفضيلة، هي الالتزام في إطار الفضيلة في شتّى الأحوال، مع التحدّي والثبات.
لكن غير رسول الله وغير أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، قد سجّل عليهم التاريخ، ما لو جمع فسيكون الملايين من السجناء السياسيين، والملايين من القتلى السياسيين. فهذا معاوية بن أبي سفيان قد سجّل عليه التاريخ أنه قتل أكثر من ثلاثين ألفاً، قتلاً وذبحاً وحرقاً بالنار، في أيام معدودة لمجرّد مسألة سياسية واحدة، أي ان معاوية قتل أكثر من ثلاثين ألفاً لمجرّد أنهم كانوا لا يعتقدون بخلافة معاوية فقط، ولم يرفعوا سيفاً ولم يحدثوا حرباً.
من بنى التشيّع؟
إنّ التشيّع بُني على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين صلوات الله عليه. والشيعة المخلصين ساروا خلف رسول الله وخلف أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. وبالمقابل اسودّت صفحات التاريخ بصنائع بني أمية وبني مروان وبني العباس الذين يتسمّون باسم الإسلام، ويتقمّصون كذباً وزوراً خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله.
نموذج الثبات والتحدّي
كان أبوذر رضوان الله عليه بطل التحديات وعنوان الثبات. فقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن شيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وتعرّض للكثير من المظالم، حتى أنه، وكما في التاريخ، أركبوه على بعير بغير وطاء، وشدّوا رجليه من تحت البعير لأنه يتبع أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وساروا به أكثر من ثلاثة آلاف كيلو متراً وهو على هذه الحالة، فلما أنزلوه تساقطت لحوم فخذيه، ولكنه ظلّ ثابتاً ومتحدّياً. وكان رضوان الله عليه، أيضاً، بحاجة شديدة إلى المال، فجاؤا إليه بمال، فرفض أن يأخذه. فقالوا لشخص وكان عبدً، انه إذا قبل أبوذر هذا المال فانت حرّ. وجعل العبد يصرّ على أبي ذر بقوله: إن أخذك لهذا المال هو ثمن لحريتي، ولك ثواب الحرية ولك ثواب تحرير وعتق العبد. فقال أبوذر أنت تكون بأخذي لهذا المال حرّاً، وأنا أصبح عبداً. فكم هو عظيم هذا الالتفات، وكم هو عظيم هذا التحدّي، وكم هو عظيم هذا الثبات.
الشيعة لم ينحنوا ولم يركعوا
لقد ظلّ شيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، في بطون التاريخ وفي منعطفات التاريخ، يتحمّلون المشكلات الكثيرة بثبات، ولا ينثنون، ولا ينحنون ولا يركعون. واليوم هكذا نجد في نقاط مختلفة من العالم، ان الشيعة يتعرّضون لكل أنواع التعذيب والمشكلات والقتل والحرق والإبادة، ولكن تجدهم أبطال التحدّيات، ولا يتعدّون على أحد ولا يظلمون أحداً. وهذا خط رسمه القرآن الكريم، وسار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله، وسار عليه أهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم. فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله، بقوله: «إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما، لن تضلّوا بعدي أبداً». فرسول الله صلى الله عليه وآله أوصى بأمرين لا ثالث لهما، وهما (كتاب الله والعترة الطاهرة). والشيعة مشدودون بهذين الأمرين، ودفعوا أغلى الأثمان وأكبر الأثمان في سبيل التمسّك بهذه الوصية من رسول الله صلى الله عليه وآله.
جواز الحكم في الإسلام
أحد الكبّار من فقهاء الشيعة وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء رضوان الله تعالى عليه، وقبل أكثر من مئتي عام تقريباً، طلب منه الحاكم الذي كان يحكم إيران في ذلك اليوم أن يعطيه وثيقة جواز الحكومة، فقال الشيخ له أني لا أعطي ذلك إلاّ أن آتي إلى إيران وأبحث فيها وأرى هل أنت تعدل بين الناس أم لا، فعندها سأعطيك وثيقة الحكومة وأجوّز لك الحكومة. يقول كاشف الغطاء رضوان الله عليه، فسافرت من النجف الأشرف إلى إيران، وذهبت إلى مدن إيران، فلم أرى باكياً ولا باكية، ولا شاكياً ولا شاكية! عند ذلك أصدر هذا العالم الكبير وهذا المرجع العظيم وثيقة جواز الحكومة لحاكم إيران في ذلك الزمان. فأين تجدون مثل هذا في التاريخ عند غير الشيعة؟ وهذه القصّة موجودة في كتابه المعروف (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء)، وقد طبع منه طبعات عديدة.
سجيّتنا العفو
وخاطب سماحته الضيوف الكرام، بقوله: لقد عشتم أيام المظالم في العراق في العقود الثلاثة، و(الرافدان مدامع ودماء). واعلموا ان خطّ الشيعة وخطّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه هو خطّ التحدّيات وخطّ الثبات في إطار الفضيلة، أما خطّ غيرهم فهو خطّ المظالم وخطّ السجون وخطّ المعتقلات والتعذيب والقتل والحرق وخطّ المشكلات.
واعملوا ان الثبات هو شعار الشيعة في التاريخ، كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ). وكان ذلك شعار رسول الله وأمير المؤمنين وخطّهما صلوات الله عليهما وآلهما في طول التاريخ. وكان شعارهما صلوات الله عليهما وآلهما، أيضاً، هو «ملكنا فكان العفو منّا سجيّة فلما ملكتم سال بالدم أبطح». فكان خطّ رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما هو العفو. فقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه، بعد حرب الجمل «مننت عليهم كما منّ رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل مكّة». أي انه صلوات الله عليه لم يقتل أحد بعد الحرب، سواء من الذين أجّجوا الحرب ضد أمير المؤمنين صلوات الله عليهم وغيرهم، ولم يعذّب أحداً، ولم يقتل أحداً منهم، ولم يسجن أحداً منهم.
مسؤولية الشيعة اليوم
شيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، اليوم، ولله الحمد، منتشرون في العالم، في القارّات الخمس، بالملايين. وفي الشيعة الألوف المؤلّفة من العلماء والمفكّرين والخطباء والدكاترة والمهندسين، وهؤلاء اليوم بحاجة إلى انتهاج منهج رسول الله ومنهج أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما في كل مكان من العالم. وبحاجة إلى أن يبيّنوا للعالم أنهم أبطال التحدّيات ورجال الفضيلة. وبحاجة إلى أن يكونوا متّحدين، ولا يخضعوا ولا يركعوا لأيّة مشكلة، وفي الوقت نفسه لا يخرجوا عن إطار الفضيلة، ولا يظلموا أحداً بشيء. فنجاة العالم من هذه المشكلات الكثيرة والكبيرة، في البلاد الإسلامية مع شديد الأسف، وحتى في البلاد غير الإسلامية، هو في هاتين الكلمتين، أي الثبات والتحدّي المقيّدين بالفضيلة.
مسؤولية كبار الشيعة
كما على شباب الشيعة في العالم، حيث تقع عليهم مسؤولية كبيرة، (لجلد الشباب) كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه، أن يقرأوا التاريخ ويثبتوا على ما ثبت عليه رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. وعلى الكبار الذين هم ورّاث الشيعة الأبطال في التحدّيات، والرجال في الفضيلة، على هؤلاء الكبار أن يحتوون الشباب ويتحمّلونهم ويوجّهونهم، حتى يكون عالم المستقبل عالماً مبنياً كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله، أي يكون عالماً بلا قتيل سياسي وبلا سجين سياسي وبلا تعذيب. وهذا لايكون إلاّ في خطّ رسول الله وأمير المؤمنين صلى الله عليهما وآلهما، ولا يكون إلاّ في انتهاج منهج رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، وإلاّ فالتاريخ قد جرّب الكثير.
من مساوئ الثورات
في النصف الأخير من القرن الماضي الذي عاشه كثير من الناس وأنا ممن عشته أيضاً، قامت العشرات من الثورات في البلاد الاسلامية، وكل ثورة، ومع شديد الأسف، بعدها نصبت أعواد المشانق، وقُتل الألوف والألوف، وأُعدموا. أما رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن له قتيل سياسي واحد. وأمير المؤمنين صلوات الله عليه، رغم كل المشكلات التي فرضت عليه، لم يكن في طول تاريخه قتيل سياسي واحد. وهذا ما يجب أن يُعاد على صعيد العالم كلّه. وهذا بحاجة إلى نشر هذه الثقافة، أي ثقافة الإنسانية، وثقافة الفضيلة، وثقافة أقصى التّحدي، وأقوى الثبات في إطار الفضيلة. فإذا انتشرت هذه الثقافة في العالم كله، فآنذاك سترون انه سيدخل في التشيّع، في عالم المستقبل، وفي دنيا المستقبل، الملايين والملايين.
هكذا يدخل الناس في الإسلام أفواجاً
في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله، كانت نتيجة هذه السياسة الإنسانية وهذه السياسة المتحدّية والمتقيّدة بالفضيلة آنذاك، هو (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً). فإذا عمّمت هذه الثقافة في العالم ونشرت في العالم في فترة مناسبة وبأساليب مناسبة وجيدة، وبتغطية عالمية واسعة، وباللغات المختلفة التي يعرفها الكل، أي كلّ بلغته، آنذاك سينعم العالم بما نعم به من عاشوا في حكومة رسول الله وحكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. ففي طيلة حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله لم يسجّل التاريخ ان شخصاً واحداً بات خائفاً من رسول الله صلى الله عليه وآله. وفي طول حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، لم ينقل التاريخ ولم يسجّل ان شخصاً واحداً بات خائفاً من أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ولكن اليوم كيف يعيش العالم؟ فكم مليون من الناس يعيشون خائفين؟ لا شكّ انهم عشرات ومئات الملايين. فلماذا يعيش هكذا الناس؟
إنّ مسؤولية الكل، بالخصوص شيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه الذين يعرفون هذه الثقافة، أي ثقافة الثبات في إطار الفضيلة، هي أن يمهّدوا الأجواء لذلك، حتى تتهيّأ الأرض كمقدمة عالمية وواسعة لظهور سيّدنا ومولانا بقية الله المهديّ الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
اضف تعليق