في كل يوم نسمع عن الانقسامات السياسية بين اليمين واليسار، تلك المفاهيم التي تحدد مسار الحياة السياسية في العالم، لكن كيف وُلدت هذه المصطلحات؟، وما هي دلالاتها الحقيقية؟ هذا التقرير يتناول الجذور التاريخية لمصطلحي "اليمين" و"اليسار"، وتطور معانيهما عبر الزمن، وصولاً إلى تأثيرهما على الساحة السياسية العالمية اليوم.

الثورة الفرنسية "ولادة المصطلحات"

مصطلحا "اليمين" و"اليسار" يعودان إلى عام 1789، إبان الثورة الفرنسية. خلال جلسات الجمعية الوطنية الفرنسية، كان أنصار الملك والنظام يجلسون على يمين الرئيس، بينما جلس مؤيدو الثورة والحرية والمساواة على اليسار، وهذا الترتيب المكاني في قاعة الجمعية أصبح لاحقاً رمزاً للتوجهات السياسية المختلفة.

الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت-سبونفيل أوجز الانقسام الأيديولوجي بقوله، "أن تكون يمينياً يعني أنك تريد عظمة فرنسا، أن تكون يسارياً يعني أنك تريد سعادة الفرنسيين"، وهذه العبارة تجسد الصراع الأساسي بين النظام والحرية الذي شكل أساس التصنيف السياسي.

ومع مرور الوقت، لم يبقَ تصنيف اليمين واليسار محصوراً في ترتيب مقاعد البرلمان، اذ يوضح المؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه أن "هذا التصنيف اكتسب معاني أعمق مع صعود الاشتراكية في أواخر القرن التاسع عشر"، ويقول، "أصبحت هذه التفرقة رمزاً للصراعات الأيديولوجية حول المساواة والعدالة الاجتماعية، حيث تبنى اليسار قيم التقدم والعدالة، بينما ارتبط اليمين بالمحافظة والرجعية".

الدلالات، من الثقافة القديمة إلى السياسة الحديثة

تعود الدلالات الأخلاقية لمصطلحي اليمين واليسار إلى الثقافات القديمة، وفي اليونان القديمة، كانت اليد اليمنى ترمز إلى الذكورة والخير، بينما ارتبطت اليد اليسرى بالمرأة والشر، وفي التقاليد اليهودية، المسيحية، والإسلامية، تُعتبر اليد اليمنى رمزاً للخير واليد اليسرى رمزاً للشر، هذه الدلالات الأخلاقية انتقلت إلى المفاهيم السياسية الحديثة، حيث يعبر اليمين عن الاستقرار والنظام، بينما يعبر اليسار عن التغيير والتقدم.

وفي القرن العشرين، تجسدت هذه المفاهيم في الصراع بين الأنظمة الديمقراطية والرأسمالية من جهة، والأنظمة الاشتراكية والشيوعية من جهة أخرى، وكانت الحرب الباردة مثالاً صارخاً على هذا الصراع الأيديولوجي، اليوم، يعبر اليمين واليسار عن مواقف متعددة تتعلق بالاقتصاد، والسياسة الاجتماعية، والعلاقات الدولية، اليمين يدعم الاقتصاد الحر والسياسات المحافظة، بينما يدافع اليسار عن سياسات الرعاية الاجتماعية والمساواة.

تأثيرات عالمية: اليمين واليسار في العالم اليوم

الانقسام بين اليمين واليسار لم يبقَ محصوراً في أوروبا، انتقل هذا التصنيف إلى العالم بأسره، مؤثراً في سياسات الدول وتوجهاتها، في الولايات المتحدة، مثلاً، يعبر الحزبان الجمهوري والديمقراطي عن هذه الانقسامات بوضوح، في الشرق الأوسط، تتجسد هذه المفاهيم في الصراع بين الأنظمة المحافظة والحركات الثورية.

اليمين واليسار مصطلحان وُلدا من رحم الثورة الفرنسية، وتطورا ليصبحا رمزين للصراع الأيديولوجي العالمي، من الدفاع عن الملكية إلى المطالبة بالمساواة، يعبر هذان المصطلحان عن قيم ومبادئ متباينة تشكل جوهر الحياة السياسية في كل زمان ومكان، بالرغم من أن هذه التصنيفات قد تبدو مبسطة، إلا أنها تعكس عمق الصراعات الأيديولوجية التي تقسم المجتمعات وتحدد مساراتها المستقبلية.



م.ال

اضف تعليق