تواجه منظمة الصحة العالمية أزمة تمويلية خانقة؛ إذ يتعيّن عليها تأمين نحو 1،7 مليار دولار لتغطية ميزانيتها لعام 2026. ويندرج تمويل منظمة الصحة العالمية الخاص، ضمن الخيارات المتاحة لتغطية هذا العجز. ولكنه، في المقابل، يطرح جملة من التحفّظات، والمخاوف الأخلاقية والمؤسسية.
ما كاد دونالد ترامب أن يباشر فترة رئاسته الثانية، حتى أعلن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية. وقد تسبَّب هذا القرار في أزمة مالية غير مسبوقة، اضطرت المنظمة إلى سلسلة من إجراءات التقشف لتقليص النفقات. وشملت هذه الإجراءات تخفيض عدد كبار الموظفين، وتجميد التوظيف، وتقليص الحضور التشغيلي والمؤسسي على الساحة الدولية؛ في محاولة لاحتواء الأزمة. ويأتي هذا النهج بالتوازي مع طرح تمويل منظمة الصحة العالمية الخاص، كأحد الحلول الممكنة لتقليص العجز.
وضمن حزمة التقشف، خفَّضت المنظمة عدد مناصب “مساعدة المدير العام” من 12 منصبًا إلى 6 مناصب فقط. كما خفَّضت عدد مديريات الإدارات، في المقرّ الرئيسي بجنيف، من أكثر من 70 إلى 36 مديرًا ومديرة.
ومع ذلك، لا يكفي تقليص الميزانية وتجميد التوظيف وحدهما، لردم الهوّة التمويلية المزمنة والمتفاقمة، التي تواجهها المنظمة. وقد يدفع هذا العجز إلى زيادة الاعتماد على الجهات المانحة من القطاع الخاص، كالشركات الكبرى والمؤسسات الخيرية الخاصة. ولكن، غالبًا ما تتحرّك هذه الجهات بدوافع سياسية أو تجارية، مثل تعزيز النفوذ أو الترويج لمنتجات صحية محددة؛ ولذلك، قد تتعارض هذه المصالح مع الهدف الأساسي في دستور المنظمة: “تحقيق أعلى مستوى ممكن من الرعاية الصحية لجميع الشعوب.
وفي هذا السياق، يطرح البروفيسور جاد وولسون، رئيس قسم الصحة الدولية في كلية بلومبرغ للصحة العامة بجامعة جونز هوبكنز، تساؤلًا جوهريًا: “هل نتّجه نحو عالم تتقرَّر فيه صحة الجميع استنادًا إلى أولويات فئة ضئيلة من أصحاب النفوذ؟.
عجز مزمن في التمويل
تأسَّست منظمة الصحة العالمية عام 1948، وظلّت منذ ذلك الحين تعاني عجزًا ماليًّا حال دون تحقيق أهدافها التمويلية بشكل مستدام. ولهذا السبب، اعتمدت بدرجة كبيرة على الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت أكبر مانحيها. ووفقًا لمقال سابق نشرته سويس إنفو (Swissinfo.ch)، التزمت الولايات المتحدة، خلال الفترة 2024–2025، بتقديم نحو 988 مليون دولار (795 مليون فرنك سويسري)، أي ما يعادل 14% من إجمالي تمويل المنظمة. ويشمل هذا المبلغ نوعين من المساهمات: المساهمات الإلزامية، وهي واجبة على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والمساهمات الطوعية التي تُخصَّص غالبًا لمشاريع محددة وفق رغبة الجهة المانحة.
ويرى بيت بيكر، نائب مدير برنامج الصحة العالمية في مركز التنمية العالمية (مركز أبحاث دولي)، أنّ الأمر التنفيذي الذي وقّعه ترمب في 20 يناير الماضي، بانسحاب بلاده من المنظمة وتجميد مساهماتها المالية، أحدث “أزمة حادّة ومزمنة”. وأضاف أن هذه الأزمة تتطلب “حلولًا شاملة وجذرية”، تتجاوز بكثير مجرد “خفض النفقات”.
وفي رسالة إلكترونية لسويس إنفو، صرّح المتحدث باسم المنظمة، طارق ياساريفيتش، بأنّ “الاتصالات مع الجانب الأمريكي ظلّت محدودة منذ إعلان نية الانسحاب في يناير، لكنها لم تنقطع بالكامل؛ إذ استمرت على مستوى بعض الملفّات التقنية والقيادية”. وأضاف ياساريفيتش أن المنظمة “لم تتلقَّ أي تمويل جديد من الولايات المتحدة منذ يناير 2025″، مشيرًا إلى أن انسحاب الولايات المتحدة لن يُصبح نافذًا قبل يناير 2026، ما يعني أن عضويتها لا تزال قائمة رسميًا حتى ذلك الحين.
عجز بنيوي وغياب الإرادة السياسية
ومع ذلك، ليس انسحاب الولايات المتحدة السبب الوحيد وراء العجز الراهن في ميزانية منظمة الصحة العالمية. ووفقًا للبروفيسور لورنس غوستين، أستاذ قانون الصحة العالمية في جامعة جورج تاون، هناك عوامل أخرى تسهم في تفاقم الأزمة المالية. ويُشير إلى أن معاناة المنظمة ترتبط أيضًا بتحوّل أولويات عدد من الدول الأعضاء الأخرى في الأمم المتحدة؛ إذ باتت هذه الدول تُخصّص مواردها لملفّات تراها أكثر انسجامًا مع مصالحها الوطنية، أو استراتيجياتها الإقليمية.
ويوضِّح غوستين، قائلًا: لم تبرهن الحكومات يومًا على استعدادها لتوفير التمويل الكامل للمنظمة. وهذه مفارقة مؤسفة، تكشف عن ترتيب الأولويات على الساحة الدولية. وهناك أيضًا دافع سياسي قوي لزيادة الإنفاق الدفاعي، لا سيّما في ظلّ الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وفي هذا السياق، يبرز دور جمعية الصحة العالمية، بوصفها الجهة العليا المسؤولة عن السياسات العامة للمنظمة. وتعقد الجمعية، التي تضم 194 دولة عضوًا في الأمم المتحدة، اجتماعات سنوية في جنيف لتحديد السياسات العامة والمصادقة على الميزانية. وفي اجتماعها الأخير في 19 مايو، وافق الأعضاء على رفع نسبة المساهمات الإلزامية من 16% إلى 20%، للفترة 2026–2027. كما صادقت الجمعية على ميزانية معدّلة ، قدرها 4،2 مليار دولار. ويقل هذا الرقم بنسبة 21% عن المقترح الأصلي، الذي بلغ 5،3 مليار دولار.
وخلال الاجتماع، قدَّر المدير العام للمنظمة، الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، العجز المتوقع في ميزانية 2026–2027 بنحو 1،7 مليار دولار. والراجح أن هذا الرقم قد خضع للتعديل، مع إعلان بعض التعهدات والمساهمات الجديدة، بشكل تدريجي.
سابقة مؤسسة غيتس
تأتي مؤسسة غيتس في المرتبة الثانية، من حيث حجم تمويل منظمة الصحة العالمية. وتسهم هذه المؤسسة الخيرية الخاصة، التي أسّسها الملياردير بيل غيتس وشريكته السابقة ميليندا فرنش غيتس، بنسبة 13% من ميزانية المنظمة. ورغم مكانتها بوصفها من أكبر المؤسسات الخيرية في مجال الصحة عالميًّا، لم تخلُ مساهماتها في تمويل المنظمة من الانتقادات.
ويقول البروفيسور غوستين: من غير الطبيعي أن يكون لفردٍ ثريّ أو لمؤسسة خاصة، هذا التأثير على وكالة معنية بالصحة العالمية. ولبيل غيتس، وغيره من الجهات المانحة الخاصة، أولويات ومشاريع مفضلة، قد لا تتوافق بالضرورة مع أجندة الصحة العامة العالمية.
ويركّز جزء كبير من منح مؤسسة غيتس على مشروع القضاء على شلل الأطفال، وهو برنامج تطعيم عالمي واسع النطاق. وبحسب مصدر إعلامي، ورغم الآثار الإيجابية لهذا المشروع، فقد أدّى إلى تحويل التمويل والاهتمام بعيدًا عن مبادرات أخرى. ولذلك، فقدت المنظمة المرونة في تمويل برامجها المعنية بتحقيق التغطية الصحية الشاملة، أي ضمان الرعاية الأساسية للجميع دون تمييز.
ويرى غوستين أن انتقاد المنظمة بسبب لجوئها إلى التمويل الخاص “ليس منصفًا، ما دامت العملية شفافة وخالية من تضارب المصالح”. ويرى أن لجوء المنظمة إلى التمويل الخاص، سببه عدم استعداد الحكومات الوطنية، أو عجزها، عن سدِّ العجز المالي فيها.
وبالفعل، أصدرت المنظمة مجموعة من المبادئ التوجيهية تنظّم علاقاتها مع الجهات غير الحكومية، ومنها الجهات الفاعلة في القطاع الخاص. وتشترط هذه المبادئ صون نزاهة المنظمة، واستقلالها، والحفاظ على مصداقيتها وسمعتها. كما تؤكد الالتزام بمنهجية علمية قائمة على الأدلة، وضمان الحماية من أي نفوذ غير مبرر أو تأثير خارجي مفرط.
آفاق المرحلة المقبلة
في مايو الماضي، عقدت المنظمة فعالية لجمع التعهّدات، على هامش جمعية الصحة العالمية، المنعقدة في جنيف. وخلالها، تعهَّدت دول ومؤسسات بمساهمات مالية لدعم ميزانية المنظمة الأساسية للفترة 2025–2028، بلغت 250 مليون دولار. وكان أبرزها تعهُّد بمبلغ 57 مليون دولار من مؤسسة “نوفو نورديسك” (Novo Nordisk)، ومقرّها الدانمرك. ولم توضح المنظمة حتى الآن، كيفية تخصيص هذه الأموال.
ويقول البروفيسور جاد وولسون، من جامعة جونز هوبكنز، الذي سبق له العمل طبيبًا في المنظمة ويواصل التعاون معها عبر لجان استشارية فنية ومشاريع بحثية، إن مشاركة الجهات الفاعلة في القطاع الخاص في دعم صحة سكان العالم وسلامتها ليست أمرًا سلبيًا في جوهره. بل قد تسهم في تحقيق منافع حقيقية وملموسة، إذا جرى توجيهها وفق آليات الشفافية والحوكمة.
وعلى الموقع الرسمي للمؤسسة، يروِّج مقطع فيديو، مدّته نحو ثلاث دقائق، لمؤسسة “نوفو نورديسك”، بأنها “جهة دانمركية لها مصالح تجارية تدعم القضايا العلمية، والاجتماعية، والإنسانية”. وتمتلك مؤسسة “نوفو نورديسك”، من خلال الشركة القابضة “نوفو هولدينغز” (Novo Holdings)، شركة الأدوية “نوفو نورديسك”، أكبر منتج أدوية في الدانمرك. وتقوم الشركة، ضمن مبادراتها، بتصنيع وبيع أدوية لعلاج داء السكري، مثل “أوزيمبيك” (Ozempic) و”ويغوفي” (Wegovy)، المستخدمين لعلاج السكري والسمنة. وتوظف المؤسسة أرباح شركة الأدوية في تقديم منح لتمويل مشاريع علمية، واجتماعية، وإنسانية. وبحسب تقارير إعلامية، حقَّقت مبيعات “أوزيمبيك” و”ويغوفي” في عام 2024، رقمًا ضخمًا بلغ 42 مليار دولار؛ ما جعل شركة “نوفو نورديسك” واحدة من أكثر الشركات قيمة في القارة الأوروبية بأكملها.
ويختم وولسون قائلًا: “هناك تقاطع تجاري مباشر يمكن أن يتماشى، نظريًا، مع مصالح منظمة الصحة العالمية في مجال الصحة العامة. ولكنه يضيف، محذرًا: “لقد التزمت المنظمة، على مرّ السنوات، الحذر من الوقوع تحت تأثير المصالح الخاصة، أو حتى شُبهة الوقوع فيه، وأرى أنه توجُّه صائب. ولكن السؤال المطروح اليوم، هو: هل تستطيع المنظمة الحفاظ على هذا التوازن الدقيق بين الحذر من النفوذ الخاص والانفتاح على دعمه المالي، في ظل بيئة تمويلية مضطربة ومعقدة؟.
وكالات
س ع
اضف تعليق