يثير العرض الفرنسي القاضي بتوسيع مظلتها النووية لحماية أوروبا تساؤلات جوهرية حول مستقبل الأمن الأوروبي، خصوصًا في ظل التهديدات المتزايدة والتغيرات الجيوسياسية المتسارعة.

وبينما تعيش ألمانيا حالة من القلق المتنامي جراء التهديدات الروسية المتكررة، جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن إمكانية تخلي الولايات المتحدة عن حماية أوروبا لتزيد المخاوف، ما دفع الألمان إلى إعادة النظر في خياراتهم الدفاعية، فهل يكون العرض الفرنسي حلًا مقبولًا؟

وتصاعدت المخاوف الألمانية بشكل ملحوظ منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، حيث باتت برلين تدرك أن التهديدات الروسية باستخدام الأسلحة النووية لم تعد مجرد تصريحات بل تحركات تفرض إعادة تقييم سياسات الأمن والدفاع.

وأتت تصريحات ترامب الأخيرة، التي شكك فيها في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا، لتعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، حينما شهدت ألمانيا توترات مشابهة على خلفية نشر صواريخ "بيرشينج" النووية الأمريكية في القارة.

هذا القلق انعكس بشكل واضح في السياسة الألمانية، إذ لم تعد هناك معارضة كبيرة تجاه زيادة الإنفاق العسكرين، فبعدما أطلق المستشار أولاف شولتس برنامجًا بقيمة 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني، ارتفعت المخصصات إلى 400 مليار يورو دون أن يلقى ذلك اعتراضًا واسعًا.

ومع تصاعد الحديث عن إمكانية تولي المحافظ فريدريش ميرتس رئاسة الحكومة، تزداد التوقعات بتعزيز التعاون الدفاعي مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، في خطوة قد تشكل تحولًا استراتيجيًا في العقيدة الدفاعية الألمانية.

ورغم الطرح الفرنسي، يرى الخبراء في ألمانيا أن بناء مظلة نووية أوروبية حقيقية يواجه تحديات كبيرة، أبرزها التفوق الكمي والنوعي لروسيا التي تمتلك نحو 5500 رأس نووي، مقابل ترسانة محدودة لكل من فرنسا وبريطانيا لا تتجاوز 10% من ذلك العدد. كما أن مسألة اتخاذ القرار النووي المشترك تبقى معضلة كبيرة، نظرًا لتمسك باريس بسيادتها المطلقة على ترسانتها النووية، مما قد يحدّ من قدرة أوروبا على بناء نظام ردع فعال.

وفي ظل هذه التحديات، يرى محللون أن التعاون مع الولايات المتحدة لم يصل إلى مرحلة القطيعة، حيث تمتلك ألمانيا خيارًا مهمًا يتمثل في الطائرات الأمريكية من طراز "إف-35"، القادرة على حمل رؤوس نووية أمريكية، وهو ما قد يتيح لبرلين دورًا أكبر في أي ترتيبات دفاعية مستقبلية ضمن إطار الناتو.

اما النقاشات الدائرة حول مستقبل الردع الأوروبي، فلم يعد الحديث عن قدرة ألمانيا على امتلاك سلاح نووي من المحرمات السياسية.

تقنيًا، يؤكد الخبراء أن برلين تمتلك القدرات اللازمة لتطوير قنبلة نووية اعتمادًا على منشآت تخصيب اليورانيوم في ولاية شمال الراين.

ومع ذلك، فإن بناء نظام ردع نووي متكامل يحتاج إلى استثمارات ضخمة تشمل تطوير منصات إطلاق متقدمة، سواء عبر الصواريخ الباليستية أو الغواصات النووية، إضافة إلى بناء شبكة أقمار صناعية لتوجيه الصواريخ، وهو ما يتطلب تكاليف هائلة وزمنًا طويلًا.

لكن على الصعيد السياسي، لا تزال ألمانيا بعيدة عن اتخاذ قرار استراتيجي في هذا الاتجاه، إذ تفضل برلين حتى الآن البحث عن بدائل أخرى، سواء من خلال تعزيز التعاون مع فرنسا وبريطانيا ضمن إطار أوروبي مشترك، أو الاستمرار في الاعتماد على المظلة النووية الأمريكية عبر حلف الناتو.

مع استمرار التهديدات الروسية، وتراجع الثقة في الضمانات الأمريكية، تجد ألمانيا نفسها في مفترق طرق استراتيجي، حيث بات من الضروري إعادة صياغة سياستها الدفاعية بطريقة تضمن أمنها القومي وأمن أوروبا ككل.

وبينما يبقى العرض الفرنسي قائمًا، تظل برلين حذرة في اتخاذ أي قرار قد يغيّر عقيدتها العسكرية، في انتظار اتضاح مسار العلاقات الدولية وتركيبة المشهد الأمني الأوروبي خلال السنوات المقبلة.

م.ال

اضف تعليق