حتد النقاش حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤخرًا، وأصبح وضع الحكومة حرجًا في ظل عدم قدرتها على الوصول إلى اتفاق ينجح في نيل رضا نوّاب البرلمان، ولذلك قررت رئيسة الوزراء تأخير التصويت إلى وقتٍ لاحق. وفي هذا الصدد نشرت "الإندبندنت" مقالًا للكاتب روبرت فيسك، يشبه فيه ما فعلته تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، بما يفعله عادةً الزعماء الديكتاتوريين في الشرق الأوسط.
مثلهم مثل ماي، كان هؤلاء الزعماء قلقين من فوز الجانب الخاطئ في حالة التصويت. لذلك أجّل الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية في الجزائر عام 1991؛ وذلك لأنَّه – بحسب الكاتب – كان يخشى فوز الإسلاميين المحتمل. لم يثق في الشعب فقرر تأجيل التصويت، قبل أن يُجبَر على الاستقالة، وتندلع في الجزائر حربٌ أهلية في النهاية.
يضيف الكاتب أنَّ حجة هؤلاء أحيانًا هي عدم وجود بديل متاح، ويكون هذا من أجل "المصلحة القومية" بالطبع، لكن في الجزائر، كان بن جديد يعلم جيدًا من سينتصر في تلك الانتخابات، فقد اكتسحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجولة الأولى من الانتخابات التي سبقتها بعام، ولم يكن الجيش ليقبل بهذا، فلم تُعقَد الجولة الثانية. كانت نهاية الديمقراطية، ونهاية بن جديد أيضًا.
وفي مصر كان حسني مبارك الذي يصفه الكاتب بأنَّه ديكتاتور بطيء التفكير وممل جدًا، قد أجَّل انتخابات المجالس المحلية في 2006 خشية تأثيرها على الانتخابات البرلمانية التي ستتبعها. وكانت لجماعة الإخوان المسلمين شعبية كبيرة، ولم يكن من الممكن الثقة في الشعب بحسب مبارك. ويُذكَر أنَّ مبارك كان في أعين الغرب والولايات المتحدة سياسيًا سطحيًا بعض الشيء، وقوة ضرورية لتحقيق الاستقرار.
وفي الأردن، أجل الملك عبد الله الانتخابات الأردنية في 2001 لعامين كاملين بسبب التوتر السياسي الذي سببته الانتفاضة الفلسطينية، أي بمعنى آخر، لم يكن يرى أنَّه من الممكن الثقة في الشعب.
أما في فلسطين، حين ذهب الشعب للانتخابات في 2006 "صوت الناس للجانب الخاطئ"، بحسب الكاتب. كان من المفترض أن يدعموا حكومة محمود عباس المدعومة من أمريكا. لم يكن من الممكن الثقة في الناس بالطبع هذه المرة أيضًا. ماذا فعل إذًا محمود عباس منذ ذلك الحين؟ أجَّل الانتخابات.
لكن في حالة تيريزا ماي، يقول الكاتب: "لم يكن لتأخير الانتخابات علاقة بثقتها في الناس من عدمها. لقد تكلم البريطانيون بالفعل، التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي معناه الخروج منه فعلًا، بالتأكيد يمكن لها الثقة في الناس. ما ظهر هو أنَّ مجلس العموم هو من لم يكن من الممكن الاعتماد عليه. كان البرلمان نفسه هو من لم يلبِّ وعده الرسمي للناس بتحقيق نتيجة استفتائهم".
لكنَّ الزعماء العرب يثقون في برلماناتهم وفقًا لفيسك، فهم يُزوِّرُون الانتخابات، فلا نجد أيًّا من الفوضى والصراخ والسلوك غير المهذب في برلمانات ومجالس هذه الدول مثلما نجد في مجلس العموم. ويضيف أنَّ معظم النواب العرب "يصفقون ويحبون ويعبدون قائدهم المبجّل"، لكن ما يخشاه الزعماءُ هو عامة الناس.
ويقول الكاتب: إنَّ ماي قد تحسدهم على هذه الديمقراطية البسيطة؛ فهي ترى أنَّ الناس متحدون والبرلمان البريطاني لا يمثلهم بحق، أو كما قالت سابقًا: "البلاد اتحدت، على عكس البرلمان".
وبحسب الكاتب، قد يواجه الحكام العرب بعض المعارضين أو المجانين، لكنَّ تصويتًا بنسبة تفوق 90% يؤكد استمرارهم في مناصبهم دومًا. ويضيف أنَّ التأجيل والتزوير هما وسيلتاهما لذلك، بالإضافة إلى بعض المنح، مثل المال الكثير الذي يوزع في بلفاست من أجل جذب الدعم للحزب الوحدوي الديمقراطي. وهو ما يعتبره الكاتب أمرًا ضئيلًا مقارنةً بالفساد البرلماني الحقيقي في الدول العربية. ولهذا لا نجد أحدًا في مجالس العرب الديمقراطية يصرخ بالإهانات تجاه الزعيم أو الطاغية العربي.
يضيف فيسك أنَّ ماي ربما تتعاطف أيضًا الآن مع الحكومة الإسرائيلية، التي تعاني من نظام برلماني فوضوي، ونظام تصويت مثير للاضطرابات. فالحكومة الإسرائيلية قد تنحرف إلى أقصى اليمين، ومع ذلك ستبقى دائمًا حكومةً على شفا الانهيار. لذلك يغير ساستها من أنفسهم ليصبحوا أكثر عنصرية أو عدوانية، أو إن كانوا ليبراليين فعلًا، فسيفقدون مقاعدهم في الحكومة أو الكنيست سريعًا أثناء الانتخابات وبعدها.
وبمناسبة الحديث عن نتنياهو، ينتقل الكاتب للحديث عن جدل المؤرخين المختلفين حول ما كان تشرشل سيختاره إن كان حيًا، أكان سيخرج من الاتحاد الأوروبي أم سيبقى؟ انقسمت إجاباتهم بين رأيين مختلفين، أولهما أنَّه كان يميل إلى ولاياتٍ أوروبية متحدة، لكنَّه كان متحمسًا أيضًا للتجارة الحرة. لقد تطلع إلى الحضارة الأوروبية لا الاتحاد الأوروبي، لكنَّ الكاتب يرى أنَّ نتنياهو قد يفهم تشرشل أكثر منا، وهو الرجل الذي يعامل الفلسطينيين ببرود وجفاء، ولا يرغب في وجود دولة فلسطينية؛ مما يجعله يقود بلاده إلى حربٍ مستمرة مع جارتها. ويعني فيسك أنَّه يفهمه ضمن السياق الحالي الذي يشهد استفتاء الخروج، والأداء المزري لرئيسة الوزراء، والبرلمان البريطاني والكارثة التي حلت على المملكة المتحدة.
ويضيف الكاتب أنَّ نتنياهو مغرم باقتباس تشرشل عن "عدم قابلية البشر للتعلم"، وذكر التعريف الصحيح لذلك الأمر في الأمم المتحدة حين قال إنَّها "عادة مؤسفة تمر بها المجتمعات المتحضرة، وهي تجاهل الخطر حتى يصيبها"، لكنَّ نتنياهو كان يستخدم اقتباس تشرشل خطأً لدعم خيالاته عن إيران وقوى الشر التي قد يُطلقها حلفاؤها. بينما في حقيقة الأمر، كان تشرشل يقصد سعي الألمان لإعادة التسلُّح عام 1935.
يقترح الكاتب على النواب ورئيسة الوزراء في هذا الوقت أن يستعيدوا حديث تشرشل حول عدم القابلية للتعلم، خلال جلسة مجلس العموم في 2 مايو (أيار) من العام نفسه؛ إذ قال تشرشل: "الرغبة في استطلاع المستقبل، والتكاسل عن التصرف حين يكون الفعل بسيطًا ومؤثرًا، وعدم القدرة على التفكير بوضوح، وتشتُّت النصائح وقت الأزمات، حتى يرن جرس غريزة البقاء؛ هذه هي الخصائص التي تتسبب في التكرار اللانهائي للتاريخ".
لكن يتساءل الكاتب متى سيرن هذا الجرس في المملكة المتحدة في عصرنا الحالي؟ ويضيف أنَّه رغم كون غريزة البقاء ضرورية، فإنَّ تصويت حزب المحافظين الفاشل على سحب الثقة يوم الأربعاء الماضي لم يرن أي أجراس، ولا فعلت نجاة رئيسة الوزراء، ولا المراسلات السرية للحزب الممزق. وبالتأكيد لم يفعل كوربين، الذي قرر أن يبقى سياسيًا لا رجل دولة.
ويرى الكاتب أنَّ ألمانيا لا تعيد تسليح نفسها اليوم مثل الماضي بكل تأكيد، لكنَّ الناس يفعلون هذا على الأرجح. والاستفتاء الثاني، وهو الجرس الذي من المفترض أن تستفيق المملكة المتحدة على إثره، سيؤجل على الأرجح، وربما للأبد. وهو تكتيك سيتفق معه الطغاة العرب بالتأكيد. انتهى/ خ.
اضف تعليق