اعتاد السودان أن يشهد انتفاضات واحتجاجات متكررة على مدار العام، لكنّ تلك التظاهرات التي تندلع في أواخر العام تكون عادًة هي الأشد، نظرًا لأنه الوقت الذي تنتهي فيه الحكومة من إقرار الموازنة العامة، والتي غالبًا ما تواجه بالغضب حين تصطدم بطموحات الشارع المُتأزم.
في عام 2013، قابلت السُلطة الاحتجاجات بعنفٍ مُفرط ما أدى إلى سقوط نحو 200 قتيل، وفقًا لمنظمة العدل الدولية، وتعتبر التظاهرات الحالية التي دخلت يومها السادس تكرارًا مشابها لما حدث قبل خمس سنوات، لكنّ خطورة الأخيرة تكمن في تراكم الأزمات التي تزامنت مع رغبة الحزب الحاكم في القيام بتعديلات دستورية تسمح للبشير خوض انتخابات 2021.
هذا التقرير يشرح لك كل أبعاد الأزمة السودانية التي تهدد عرش الرئيس القابع في الحُكم منذ 30 عامًا.
1- من يقف وراء الاحتجاجات وما هي مطالبهم؟
شأنها شأن جميع انتفاضات الربيع العربي، كانت تلك التظاهرات خالية من الرؤوس المُحركة لها، وهو ما مثّل تخبطًا للنظام في التعامل معها، لأنّ كافة الاحتجاجات التي سبقتها مثّلت دعوة مباشرة من أطراف بعينها في المعارضة، لذا كان النظام يكتفي باعتقال أطرافٍ بعينها، وهو ما حدث في أوائل العام الجاري حين داهم جهاز الأمن اجتماعًا للمعارضة أسفر عن القبض على عددٍ من رؤساء الأحزاب المُناوئة للسُلطة، بالتزامن مع حملة اعتقال المئات ممن خططوا ونفذوا ما أسموه "الاحتجاج السلمي" ضد الجوع والغلاء.
أما الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت يوم الأربعاء الماضي فيمكن وصفها بأنها جامحة وعنيفة، واللافت أنها خرجت من مدرسة صناعية بمدينة عطبرة شمال البلاد – المدينة التي طالما أزعجت البشير – بسبب غضب الطلبة من انعدام الخبز في وجبة الإفطار، لتخرج الاحتجاجات إلى شوارع البلدة التي امتدت لاحقًا إلى مدينة بورتسودان شرق البلاد، ثم وصلت إلى العاصمة الخرطوم، ووصلت الحرائق إلى مدن أم درمان والأبَيض في ولاية شمال كردفان، وكان السبب الرئيس الذي أشعل غضب المتظاهرين هو قرار الحكومة زيادة أسعار الخبز ثلاثة أضعاف، ليباع سعر الرغيف بما بين ثلاثة إلى خمسة جنيهات سودانية.
ويمكن القول إن الخبزُ وحده لم يكن من حرك غضب الشارع؛ فالأزمات المتراكمة التي لحقت بالسودانيين بسبب إقرار موازنة عام 2018، والتي قفزت على إثرها أسعار السلع خلال العام بشكل متضاعف، وفشل خطط الحكومة أيضًا في خفض العجز الحكومي، إضافة إلى وصول نسبة التضخم إلى حاجز خيالي نحو 70%، تزامنًا مع أزمات الوقود وانهيار العُملة، هو ما سبب احتقان الشارع؛ في الوقت الذي تقدّم فيه 33 حزبًا مثّلوا أغلبية أعضاء البرلمان باقتراح تعديل دستوري يهدف لتمديد الحد الأقصى لفترات الرئاسة، فلا يضطر الرئيس البشير إلى التنحي عن السلطة عام 2020 بموجب الدستور الحالي، التعديل الذي إن تم سُيمكنه من خوض الانتخابات المقبلة والفوز فيها على الأرجح.
وعلى وقع الاحتجاجات التي جابت عدة مدن، فقد أحرق المتظاهرين مبنى حزب المؤتمر الوطني الحاكم في ولاية شمال كردفان غرب البلاد، وأشعلوا النيران في عدة مبان حكومية، وواجهوا القنابل المسيلة للدموع التي أطلقتها الشرطة بإحراق الشجر وإطارات السيارات، وبلغ حصيلة القتلى حتى الآن نحو 22 قتيلًا بحسب ما صرح به رئيس حزب الأمة المعارض الصادق المهدي.
2- على خلاف المتوقع.. كيف قابل النظام التظاهرات؟
وعلى خلاف كافة الاحتجاجات السابقة، تدخل الجيش السوداني لحماية المنشآت الاستراتيجية والمتظاهرين أيضًا، في الوقت الذي صرح فيه الناطق باسم الحكومة السودانية بأن الشرطة تعاملت مع الاحتجاجات بصورة حضارية دون كبحها أو اعتراضها، قبل أن يبرر ما حدث لاحقًا من عمليات اعتقال وعنف قائلًا: "المظاهرات السلمية انحرفت عن مسارها".
النظام أيضًا واجه تظاهرات الغضب بنظرية المؤامرة للتشكيك في مشروعيتها؛ إذ اتهم المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني صلاح قوش، الموساد الإسرائيلي بتجنيد 280 عنصرًا كانوا في إسرائيل لإثارة الفوضى في السودان، قبل أن تُعلن وكالة الأنباء السودانية الرسمية، أنّ السلطات الأمنية أوقفت ما وصفته "خلية تخريبية" بولاية الخرطوم كانت تخطط لتنفيذ عمليات تخريبية.
اتساع دائرة الاحتجاجات دفع الحكومة لتعليق الدراسة في الجامعات والمدارس بولاية الخرطوم وولايات أخرى، وفرضت كذلك حظر التجوال وحالة الطوارئ، ليس هذا فقط، بل بعد ساعاتٍ من إصدار الرئيس عمر البشير قرارا بإعفاء مدير عام هيئة الاتصالات، أعلنت الحكومة حجب مواقع التواصل الاجتماعي، التي تنتشر عبرها فيديوهات الاحتجاجات في كافة أرجاء البلاد، لكنه على غير العادة لم يُصادر الصُحف السودانية المُستقلة التي دأبت على انتقاد النظام في كافة الاحتجاجات، وهو ما كان يُعرضها سابقًا للمصادرة.
وخوفًا من أن تسقط تلك التظاهرات الشاردة في أيدي المعارضة المنظمة، شنّ جهاز المخابرات حملة اعتقالات شملت 14 قياديًا في تحالف المعارضة، اجتمعوا بهدف التخطيط لتنفيذ إضراب سياسي وعصيان مدني بعد مرور أسبوع على الاحتجاجات التي شهدت رفع سقف مطالبات دون أن تستجيب لها الحكومة.
3- هل يشهد السودان فعلًا أزمة اقتصادية؟
قبل نحو ثلاثة أسابيع من الأزمة، شهد السودان أعلى معدلات الغضب والاحتقان بسبب فشل سياسات الحكومة، تزامنًا مع مناقشة موازنة العام الجديد التي اعتبرتها جبهة المعارضة في البرلمان أسوأ من موازنة العام الحالي، واعتبرت أنّ الأرقام غير حقيقية ولا تعكس الأوضاع على الأرض، مثلما حدث في موازنة عام 2018، عندما توقعت الحكومة أن يقل التضخم إلى حاجز 19.5%، لكنه واصل الارتفاع حتى وصل إلى 70%.
وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي، فنسبة البطالة بين الشباب السوداني تخطت حاجة الـ 20%، وتشهد العملة المحلية انخفاضًا ضخمًا نتيجة لتدهور السياسات الاقتصادية، إذ يبلغ سعر الدولار الأمريكي نحو 47 جنيه سوداني، كما توقعت الحكومة أن تنخفض نسبة العجز المالي بنسبة 2.4 % من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه تخطى حاجز الـ3%.
ودخلت السودان خلال 30 عامًا من حُكم البشير في أزمات اقتصادية متلاحقة، فبخلاف العقوبات الأمريكية المفروضة عليه منذ عام 2009 بسبب جرائم الحرب التي شهدتها دارفور –تقع في الجنوب الغربي- وراح ضحيتها 400 ألف قتيل، كان انفصال الجنوب عام 2011 ضربة أخرى قصمت ظهر النظام، ففقد السودان ثلث مساحته الجغرافية بالإضافة إلى 70% من الإنتاج النفطي، وهو ما حرمه من العُملة الصعبة، فيما اشتدت العقوبات على البلد الغني بالموارد بعد انضمام البشير لحلف طهران الاقتصادي قبل أن يفك الارتباط معه عام 2016.
واللافت أنه قبل ثلاثة أسابيع من اندلاع الاحتجاجات، كانت الحكومة السودانية قد أطاحت بثلاثة مسؤولين من مناصبهم في قطاع البنك المركزي والنفط، وذلك في محاولة لاحتواء الغضب الذي سببته أزمة الوقود عبر خمسة أيام في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وعبر تغريدة لرئيس الحكومة السودانية معتز موسى، أعلن إقالة النائب الأول لمحافظ البنك المركزي ووكيل وزارة النفط والمدير العام للإمدادات، معترافًا بفشل الحكومة ممثلة في هؤلاء في حل الأزمة.
وجدير بالذكر أنّ احتياجات السودان من النفط تُقدر بنحو 4 آلاف طن يوميًا، بينما ما تنتجه مصفاة الخرطوم تبلغ نحو 3200 طن، ما يعني أنه هناك عجز بنحو 800 طن، وفي السياق ذاته؛ اعترف وزير النفط السوداني بتراجع إنتاج الخرطوم من النفط من 125 ألف برميل يوميا إلى 75 ألف برميل في اليوم، وهو ما يندرج ضمن سلسلة الأزمات التي تعاني منها والتي انتفض من أجلها المتظاهرون.
4- من الرابح الوحيد مما يحدث في السوادن حتى الآن؟
تزامنت الاحتجاجات مع عودة رئيس حزب الأمة المعارض الصادق المهدي الذي مكث عامًا في منفاه الاختياري ببريطانيا، قبل أن يعود بترحيب من الحزب الحاكم الذي دعاه للمشاركة في الحوار مع الحكومة والانتخابات الرئاسية القادمة، إضافة إلى لجنة تشكيل الدستور.
في البداية؛ بدت الفرصة كبيرة أمام المهدي الذي يترأس تحالف "نداء السودان" المعارض، للعودة بقوة في الحياة السياسية، وهو ما يبدو سببًا كافيًا لالتزامه الصمت في الأيام الأولى من الاحتجاجات، لكنه حين اتسعت رقعة الاحتجاجات التي فاجأت الجميع، سُرعان ما انخرط فيها وأصبح المتحدث باسم جموع المعارضين، وهو ما تخشاه الحكومة السودانية من أن تصبح التظاهرات قوة في أيدي المعارضة ذات الصوت الواحد.
أعلن المهدي – الذي أصبح الرابح الوحيد حتى الآن – أن عدد الضحايا بلغ 22 قتيلًا، وهو ثلاثة أضعاف الرقم الذي تبنته مصادر رسمية، كما أنه قدم مذكرة للحكومة حول وضع رئاسي جديد للبلاد؛ مطالبًا بسرعة الانتقال الديموقراطي للسُلطة، وتنحي البشير، وتشكيل حكومة توافقية، مُشددًا خلال الخطاب الذي ألقاه لأنصاره على أن "موقفنا إيجابي تجاه التحرك الذي يشهده الشارع من احتجاجات، وإذا لم تتجاوب الحكومة، فسندعو لإضراب عام، ويليه باقي سيناريو الانتفاضة".
وتجدر الإشارة إلى أنّ الصادق المهدي كان رئيس وزراء بحكومة منتخبة من عام 1966 إلى عام 1967، ثم في عام 1986 إلى عام 1989، حين أطاح به الرئيس الحالي عمر حسن البشير عبر انقلاب عسكري بدعم من الجبهة الإسلامية القومية – الإخوان المسلمون – التي رأسها حسن الترابي، والذي ما لبث أن انقلب عليه البشير فيما بعد ليصمد في السُلطة نحو 30 عامًا، ولربما وجد المهدي في الاحتجاجات الحالية فرصته للانتقام من غريمه والوصول للحكم؛ لأنه بسقوط النظام سيصبح أقرب المرشحين للرئاسة، باعتباره زعيم أكبر الأحزاب المعارضة، بالإضافة إلى زعامته الدينية باعتباره رئيسًا لطائفة "الأنصار" التي تنسب إلى جده الأكبر محمد أحمد المهدي، مُفجّر الثورة المهدية في السودان في أواخر القرن التاسع عشر.
5- هل يتمكن البشير من احتواء الغضب؟
دفعت الأزمة الأخيرة البشير إلى احتواء الموقف عبر عدة مستويات سياسية واقتصادية وأمنية؛ بدءًا من تعيين ضابط في جهاز الأمن والمخابرات واليًا للقضارف – شرق البلاد – التي شهدت احتجاجات على ارتفاع أسعار الخبز، وحرق مقر الحزب الحاكم، مرورًا بالقرار السريع بنزول الجيش إلى الشوارع لاحتواء الموقف وعدم دفع الأمور للتصعيد.
وفي الوقت الذي حذّر فيه مدير جهاز المخابرات صلاح قوش بأنه لن يتم رفع الدعم عن الدقيق والوقود، قامت الحكومة بطرح عطاءات لاستيراد القمح والدقيق بإجمالي 500 ألف طن، منها 200 ألف طن دقيق قمح، و300 ألف طن قمح سائب بغرض صناعة الخبز، كما عقدت الحكومة اتفاقًا مع جنوب السودان للحصول منها على النفط في خطوة لحلّ الأزمة، وهي الخطوة التي تأتي لتهدئة الاحتجاجات، لكنّ الحكومة نفسها تُقرّ بأن أي خطوة لرفع الدعم ستسبب مزيدًا من الانهيار الاقتصادي الذي يعاني من أزمات، كما أن اتفاقية النفط لن تحل المشكلة نهائيًا.
وعلى المستوى الأمني، فقد برر النظام السوداني عمليات العنف تحت غطاء أنّ هناك مُندسين قاموا باستغلال الاحتجاجات السلمية للقيام بأعمال عنف، وحتى الآن لم تقدم الحكومة بيانات رسمية حول أعداد القتلى، لكنها أعطت إشارة واضحة بأنها لن تسمح للتظاهرات بأن تأخذ منحنًا آخر.
واللافت أنّ الأمير القطري هاتف الرئيس السوداني وأعلن استعداداه الكامل لتقديم الدعم للحكومة لتجاوز الأزمة؛ البحرين أيضًا قدمت الدعم نفسه، كما قامت مصر بفض مظاهرة سودانية أمام سفارة السودان في القاهرة، فيما التزمت الإمارات والسعودية الصمت في وقتٍ تأجلت فيه زيارة رسمية سعودية للرياض عقب قيام السودان بسحب 10 آلاف مقاتل من اليمن.
وحتى اللحظة تعوّل الحكومة على استمرار وتيرة الاحتجاجات دون تصعيد، وهو ما يكفل لها الهدوء، ثم الفشل، مثلما يحدث كل مرة، ومؤخرًا حسم الرئيس الجولة لصالحه، حين أعلن الجيش السوداني في بيان له التفافه حول القيادة الرسمية، وهو ما مثّل تكتلًا أمام جبهات المعارضة والمتظاهرين. انتهى/خ.
اضف تعليق