نعيش حاضرنا وسط عالم يدخل الإنترنت في كل جزء منه، ليسجّل تاريخنا بأدق تفاصيله. ويمكن محو هذا التاريخ ببضع ضربات على لوحة المفاتيح كما فعل خبير تحليل بيانات صيني شهير أعلن أنه على وشك محو كافة تغريداته بموقع تويتر، وكتب: "لا أنتوي تقويض سلطة الدولة أو الحزب". وترى صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية في ذلك مؤشرًا خطيرًا كبيرًا على حرية الإنترنت، تحت رعاية الصين.
ذلك بحسب التقرير الذي نشرته حول كتاب The Great Firewall of China أي "جدار حماية الصين العظيم" للصحفي جيمس جريفيثس.
إذ نشر الخبير الصيني الشهر الماضي تحليلًا بيانيًا عن العمل الأكاديمي الذي سرق مسؤولو الحكومة ملكيته، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية التي أفادت أن تغريداته اختفت الآن بالإضافة إلى ملفات الأكواد البرمجية الخاصة به على موقع "جيت هاب"، وهو منصة مشاركة الأكواد التي تملكها شركة "مايكروسوفت".
وعلى مدار العام الماضي، حاول رقباء بكين للمرة الأولى محو تغريدات يرونها غير مستساغة على تويتر، عن طريق اختراق حسابات المعارضين وإجبار البعض على محو محتواهم الشخصي، على الرغم من أن تويتر محجوب داخل الصين.
السيادة السيبرانية الصينية
وذكر تقرير "فاينانشال تايمز" أن الصين تشنّ هجومًا شاملًا على حرية التعبير عبر الإنترنت منذ عشرين عامًا، مضيفًا أن غير الصينيين يصطدمون بضوابط الرقابة الصينية خلال رحلاتهم إلى البلاد، إذ يصابون بالإحباط نتيجة صعوبة الوصول إلى مواقع مثل جوجل وفيسبوك طوال الوقت. لكن السنوات الأخيرة شهدت توسّع اعتداء الحكومة الصينية على حريات الإنترنت ليمتد إلى خارج حدودها، وفقًا لما أورده جريفيثس في كتابه.
وأضاف جريفيثس، في كتابه بحسب التقرير، أن المخترقين الذين يعملون لصالح الحكومة الصينية عطّلوا موقع جيت هاب بصورة مؤقتة، وتجسّسوا على سكّان التبت في الهند بشدة، وسرقوا أسرارًا تجاريةً من الشركات الأمريكية بحسب الاتهامات الأمريكية.
وترى الصحيفة البريطانية أن الأدهى هو أن الصين ضغطت سياسيًا من أجل تطبيق رؤيتها عن السيادة السيبرانية وشبكة الإنترنت المحاصرة دوليًا، فضلًا عن مساعدة روسيا وأوغندا على تأسيس ضوابطها المتعلّقة بالإنترنت.
وبحسب الصحيفة فينبغي على المهتمين بالحقوق الرقمية في الغرب أن يستجيبوا لتحذيرات جريفيثس من أن نظام الرقابة الصيني على الإنترنت ليس مخصّصًا للاستعمال المحلي فقط، بل يجري تصديره حاليًا بوصفه جزءًا من حملة بكين الرامية لإضفاء الشرعية على نهجها أمام العالم.
وأورد التقرير أن الصين أسّست جدار حمايتها بعد أن تعلّمت دروس الأطراف الأبرع في هذا المجال: شركات التكنولوجيا الأمريكية، مثل سيسكو، التي طوّرت أدوات أساسية لتصفية حركة المرور عبر الإنترنت ومنحت الشركات القدرة على التحكّم في المحتوى الذي يتصفحه الموظفون.
لكن بكين، وفق التقرير، استغلت تلك الأدوات وطوّرتها على نطاق ومستوى أوسع، وتدير اليوم أكثر أنظمة الرقابة والمراقبة تطوّرًا على مستوى العالم. ويحجب جدار الحماية العظيم أسماء المواقع الإلكترونية ويعمل على إعادة توجيه حركة الإنترنت وإغلاق الاتصالات المشفّرة عن طريق التعرّف على نوعية الخدمة التي يحاول المستخدم الاتصال بها، وذلك للحيلولة دون وصول المواطنين إلى المواقع والخدمات التي لا توافق هوى الحزب الشيوعي الصيني.
قلق عالمي من توسع القدرات الصينية
ويأتي كتاب جريفيثس في وقت ينتاب فيه القلق حكومات العالم بشأن توسّع القدرات التكنولوجية الصينية وقدرتها على القيام بالتجسّس الإلكتروني بحسب التقرير.
ويشرح جريفيثس موضوعًا تقنيًا، وهو تحكّم بكين بالإنترنت، من عدسة السياسات الصينية ومنطق الحركات الاجتماعية. وتعجّ الفصول التي تتطرّق إلى شركات التكنولوجيا والقوانين بقصص مؤثّرة للغاية حول النشطاء العرضيين الذين سقطوا ضحيةً لمراقبي الصين: مثل متصوّفي فالون جونج ورسّامي الكاريكاتير الساخرين ومسلمي الأويغور وغيرهم، وفقًا لتقرير فاينانشال تايمز.
ويجمع جريفيثس بين ثلاث فرضيات مختلفة خلال تطرّقه إلى تاريخ الإنترنت الصيني المتوسّع، بحسب الصحيفة البريطانية، الأولى هي أن الإنترنت يهدّد حكام الصين لأنه "يهدّد بخلق منصة للعمل المنظّم المناهض لهم، وليس لأنه يخاطر بتقويض سيطرتهم على المعلومات". وتساعد هذه الصياغة على فهم قرارات رقباء بكين بصورة أفضل.
وترى الصحيفة أن ذلك يفسّر أسباب تساهل الجهات التنظيمية مع الشكاوى بشأن تلوّث الهواء والساسة ذوي السمعة السيئة، لكنها في الوقت نفسه سارعت في العام الماضي لإغلاق تطبيق "نيهان دوانزي"، الذي يعني اسمه "قصص ضمنية" وهو عبارة عن منصة لتداول مقاطع الفيديو التي يقع أغلب محتواها ضمن نطاق النكات البذيئة.
وازداد اهتمام سكان المدن من الشباب والرجال في متوسط العمر بمشاركة هذا النوع من النكات لدرجة أنهم أنشأوا مجموعات معجبين للقاء جماعيًا على أرض الواقع، مع استخدام عادات ترابط تشبه الأخويات، مثل التحيات المشفّرة. وما يزال بإمكانك العثور على ملصقات دعائية للتطبيق في حي الحياة الليلية ببكين، رغم مضي وقت طويل على حظر التطبيق، وهي تطبيقات ترى الصحيفة أنها ليست صادرة عن الشركة المنتجة للتطبيق.
وأدت الطموحات واسعة النطاق لرقباء بكين إلى أن يتوقع بعض الغربيين أن ضوابط الإنترنت الصينية ستصبح أكثر مرونةً نتيجة عدم امتلاك القدرة المطلقة على التحكّم في طوفان المعلومات، وفقًا لتقرير "فاينانشال تايمز".
لكن حدث عكس ذلك: إذ نمت قدرة الصين التكنولوجية على التحكّم في الإنترنت على أراضيها والهجوم على المنصات التكنولوجية خارجها. لدرجة أن الستة أشهر التي أعقبت الانتهاء من الكتاب شهدت أحداثًا كثيرة، مزاعم التجسّس بحق شركة التكنولوجيا العملاقة "هواوي" وكشف موقع "ذي إنترسبت" الأمريكي عن محاولات "جوجل" لدخول السوق الصينية من جديد، والهجمات المتكررة على مستخدمي تويتر، مما يفسح المجال أمام إضافة فصول جديدة، بحسب التقرير.
جدار الحماية الذي لا يقهر
وذكر تقرير الصحيفة البريطانية أن مواقع التواصل الاجتماعي الغربية لم تتمكن من دخول عالم الإنترنت الصيني كما يأمل البعض.
وتعرقلت جهود مارك زوكربيرج، مؤسس فيسبوك الذي طلب من الرئيس شي جين بينج أن يختار اسم طفله الأول، نتيجة الحرب التجارية مع الولايات المتحدة وخطوات العاملين على رأس إدارة الفضاء السيبراني الصينية الذين شهدوا إقالة مسؤول بارز إثر اعتباره متعاطفًا مع المصالح التكنولوجية الأمريكية.
ويرى مؤلف الكتاب جريفيثس أن تاريخ الشركات التكنولوجية الأمريكية في الصين يفنّد فكرة وجوب نجاح نموذج "المحرّر الغربي"، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية. إذ تتعارض دوافع الربح لدى الشركات ورغبتها في كسب ود الحزب الشيوعي مع ضرورة حماية المستخدمين.
ففي أوائل التسعينيات، بدأت شركة "سيسكو" في بيع معدّات مراقبة الإنترنت للصين. وسلمت شركة "ياهو" بيانات بريد إلكتروني أدّت إلى سجن صحفي صيني عام 2004. وفي العام التالي، حذفت شركة "مايكروسوفت" مدونة معارض صيني شهير.
وتوصّل جريفيثس، في خاتمة كتابه التي وصفها التقرير بأنها "متسرّعة"، إلى أن رأسماليي "وادي السيليكون لن ينقذوك"، ناهيك عن الحكومات الغربية (المنافقة أحيانًا) التي تتحدّث عن فضيلة مجانية الإنترنت في الخارج، مع التشكيك في التزام حكومات مثل الصين بالمبادئ التي تدافع عنها الولايات المتحدة.
ويرى جريفيثس أن ما نحتاجه حقًا هو "إنترنت ديمقراطي شفاف يسيطر عليه المستخدم"، لكن الصحيفة البريطانية ترى أن الأمر أضحى شبه مستحيل داخل الصين.
اضف تعليق