حوار: أمير الموسوي

مع تسارع التطور التكنولوجي والانفتاح الهائل على مصادر المعلومات، بات الأمن الفكري يشكّل أحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات، لا سيما في ظل تنامي محاولات بث الأفكار المتطرفة والمنحرفة عبر أدوات إعلامية وثقافية مدروسة وممنهجة. هذه الأفكار لا تستهدف فقط العقول، بل تسعى إلى تقويض استقرار الأوطان وتفكيك نسيجها الاجتماعي من الداخل.

ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية التوعية بالأمن الفكري كأولوية وطنية ومسؤولية تشاركية بين المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية. وبصفتنا جزءًا من هذه المنظومة الإعلامية، كان من الضروري تسليط الضوء على هذا الملف الحساس الذي يلامس حاضر البلاد ومستقبلها.

وفي هذا السياق، أجرينا حوارًا خاصًا مع الأستاذ الدكتور حيدر عبد الزهرة التميمي، رئيس اللجنة الوطنية العليا للأمن الفكري التابعة إلى رئاسة الوزراء، تحدث فيه عن الأمن الفكري وما هي أهداف تأسيس اللجنة، وأبرز التحديات الفكرية التي تواجه المجتمع العراقي، فضلاً عن رؤيته لمستقبل الأمن الفكري في العراق.

1. ما المقصود بالأمن الفكري؟

الأمن الفكري أحد مفاهيم الأمن الشامل، وكغيره من المفاهيم التي تمس الفرد والمجتمع بصورة مباشرة. إذ لا يوجد مفهوم متفق عليه لتعريف الأمن الفكري، لأن ما يعده مجتمع ما خطرًا فكريًا لا يُعد في مجتمع آخر خطرًا فكريًا. ونحن في اللجنة الوطنية العليا للأمن الفكري من أولى أولوياتنا صياغة تعريف لمفهوم الأمن الفكري ينسجم مع متبنيات المجتمع العراقي من حيث الدستور والعرف والأديان الموجودة في المجتمع. وهو في أبسط تعريفاته: سلامة المنظومة الفكرية والقيمية والثقافية والأخلاقية من الانحراف، وفق مبادئ الدين الإسلامي الحنيف والديانات السماوية السمحاء، والتشريعات القانونية، والأعراف الاجتماعية الأصيلة.

2. وكيف تراه في السياق العراقي الحالي؟

يعد الأمن الفكري أحد أكثر القضايا المركزية والحساسة والأكثر تشابكًا بين قضايا الأمن المركزية لما مر به العراق كدولة من منعطفات خطيرة وتحولات جذرية وصراعات فكرية وهوية تركت بصمتها على تفكير العقل الجمعي العراقي وسلوكه الخارجي. لذا لا يمكن التعامل معه كمسألة هامشية، بل هو ركيزة أساسية لبناء السلم المجتمعي، وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية، وحماية المجتمع من الأفكار المنحرفة.

وإن المعالجة الناجعة تتطلب مقاربة شاملة تدمج بين ما هو (أمني، تربوي، ثقافي، ديني، وسياسي)، وهذا ما تعمل عليه اللجنة الآن أثناء كتابة الاستراتيجية الوطنية العليا للأمن الفكري العراقي.

3. ما الدافع وراء تشكيل اللجنة العليا للأمن الفكري؟

نسعى إلى حماية المنظومة الفكرية في المجتمع ومواجهة الانحراف الفكري بكل أشكاله. فالأمن الفكري من أهم القضايا التي يتوجب أن تهتم بها الدولة في الوقت الحاضر، إذ إنه يسهم في تحقيق الاستقرار والطمأنينة النفسية للفرد، ويحمي معتقداته الفكرية والثقافية من الأفكار المنحرفة. ويعد الأمن الفكري مرتكزًا مهمًا لجوانب الأمن الأخرى، إذ إنه من أهم متطلبات الحياة؛ فالإنسان مثلما يرغب بضمان أمن حياته يرغب بضمان الأمن على عقيدته التي يتبناها وهويته التي ينتمي إليها.

4. كيف تتعاملون مع التنوع الثقافي والديني والسياسي في العراق أثناء صياغة هذه الاستراتيجية؟

أحد التحديات التي نواجهها في بلد غني بالهويات الثانوية مثل العراق، فهو فسيفساء تتسم بتنوع ثقافي وديني وعرقي. لذلك إيماننا هو أن نحول هذا التحدي إلى مصدر قوة وطنية ونستثمره في صياغة الاستراتيجية. وعلى سبيل المثال، نعمل على استثمار الهوية العشائرية والمذهبية والقومية في خدمة الهوية العراقية بوصفها الهوية الجامعة والحاضنة للمجتمع وحمايته.

5. ما هي أبرز التحديات التي تواجه الأمن الفكري في العراق اليوم؟

الأمن الفكري في العراق يواجه تحديات متعددة وعلى مجموعة مستويات: تحديات سياسية، دينية، تعليمية وإعلامية... ولعل أبرز تحدٍ يواجهنا هو الانقسام الهوياتي (الولاء لما دون الهوية العراقية). لذلك نحتاج إلى بناء مشروع وطني فكري جامع، يعيد إنتاج وعي المجتمع على أساس الانتماء والمواطنة والاعتدال والتعددية المسؤولة، كل ذلك تحت الولاء للهوية العراقية الوطنية الجامعة.

6. هل هناك آليات لقياس تأثير الأمن الفكري على الواقع المجتمعي؟

أكيد هناك آليات لقياس تأثير الأمن الفكري على الواقع المجتمعي، ووجود انحراف فكري يؤدي إلى سلوكيات منحرفة. ولا يخفى على الجميع انتشار الأفكار المنحرفة وظهور التيارات المتطرفة، فكل هذه مؤشرات متعددة. والملاحظ أنها ليست مؤشرات وآليات مادية، لتعلقها بالبُنية الذهنية والسلوك الجمعي. ومن تلك المؤشرات والآليات والرصد، أقدم السيد رئيس مجلس الوزراء السيد محمد شياع السوداني على إصدار أمر ديواني بتشكيل اللجنة الوطنية العليا للأمن الفكري لصياغة استراتيجية وطنية شاملة للحد من الانحرافات الفكرية التي أثرت بصورة مباشرة على ذهنية وسلوك المجتمع.

7. ما هو تصوركم لمستقبل الأمن الفكري في العراق خلال السنوات الخمس المقبلة؟

نأمل بعد صياغة الاستراتيجية والانتهاء منها الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة تنفيذ الاستراتيجية عن طريق إشراك كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية والأطراف التي تسهم في تفعيل الاستراتيجية، وإذا نجحت اللجنة بذلك فإننا سوف نتجاوز شوطًا كبيرًا ونضع حلولًا ناجعة لمسألة الانحرافات الفكرية في المجتمع.

8. كيف يمكننا التمييز بين حرية الفكر والانحراف الفكري في بيئة متعددة مثل العراق؟

سؤال مهم بالطبع، لأن هناك التباسًا كبيرًا، ولا سيما عند الشباب الذين يعتقدون أن الإنسان يجب أن يفكر كيف يشاء ولا يمتنع عن أخذ المعلومات من أية جهة كانت، ويفسرون ذلك بأنه حرية شخصية. والحقيقة أن خلافًا جليًا بين مفهوم الحرية والانحراف الفكري. فحرية الفكر: هي القدرة على اعتناق الأفكار والتعبير عنها دون الخوف من القمع أو الإقصاء، وتشمل حرية الرأي والمعتقد والنقاش. في حين يعرف الانحراف الفكري بوصفه تبني أفكار تتجاوز حدود التعبير المشروع عن الرأي لتتحول إلى تهديد مباشر أو غير مباشر للسلم المجتمعي أو وحدة الدولة أو القيم العامة.

وما نعتمده كسياق في منهجنا هو عدم القسر في فرض الأفكار على المواطن العراقي، بل محاولة تمكينه من التحليل المنطقي للأفكار وتنقيتها ومناقشتها، لتكون هناك عملية تصفية، ولا يكون الفرد العراقي مستقبلاً للأفكار كيفما كانت ومن أين ما وردت.

9. ما هو برأيكم دور الدين في تعزيز الأمن الفكري؟ وهل هو أداة وقاية أم يمكن أن يتحول إلى أداة تأزيم إذا أُسيء استخدامه؟

بالتأكيد، إن الدين هو وسيلة مهمة في تعزيز الأمن الفكري، لأنه يربي الإنسان على التفكر في ما يرد إليه من معلومات وأفكار، ويمنحه الحرية في اعتناق ما يشاء بعد أن يسعى إلى عرض القيم والأفكار السامية التي تصل إلى الإنسان عن طريق رسالاته السماوية. والدين يحمل الرمزية التي تسهم في تعزيز الأمن الفكري، فضلاً عن أنه يمثل منظومة قيمية متكاملة لا حدود مكانية ولا زمانية لصلاحيتها. إلا أننا لا ننكر أن تشويه الأفكار الدينية وتزيفها يؤدي إلى قلب المعادلة ويحقق نتيجة مخالفة، فتصبح الأفكار الدينية المشوهة أداة لضرب الدين وجعل الناس ينفرون منه.

10. هل ترى أن المجتمع العراقي بحاجة إلى مصالحة فكرية وثقافية بعد عقود من الصراع؟

بالتأكيد، العراق توجهت إليه موجات من الأفكار التي أرادت تزوير ثقافته الحقيقية وتغيير منظومته القيمية، ولا سيما أنه دخل في حروب متعددة، ومورس ضده الإرهاب والقهر من جوانب متعددة، وأثرت لسنين طوال ظاهرة الأيديولوجية الواحدة التي يراد لها الفرض وإجبار الناس على اعتناقها، علاوة على الصراع العرقي والطائفي والديني داخل البلد الواحد، مما يؤدي إلى ضرورة إيجاد سياسة تتمكن من إدارة هذا التنوع وتضع آلية حقيقية للسماح للعقل العراقي بالتفكير الحر والإبداع والتطور.

11. كيف تقيمون أثر الإعلام الرقمي ومنصات التواصل على تشكيل الوعي؟ وهل ترون أنها تشكل تهديدًا أم فرصة؟

الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي بوصفها السلطة الرابعة، سلاح ذو حدين؛ يمكن أن تكون أداة لنشر الوعي ورفع المستوى الفكري في المجتمع، ويمكن أن تكون أداة سلب عن طريق نشر الأفكار المنحرفة وتسويقها.

لذلك فإننا اليوم وفي عصر العالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي، فلا غنى عن الإعلام وترويضه مع وجود الرقابة الحكومية وجعله فرصة وأداة من أدوات تفعيل الاستراتيجية الوطنية العليا للأمن الفكري.

12. كيف يمكن أن تلعب المؤسسات الثقافية والفنية دورًا في تعزيز الأمن الفكري؟

من أولويات عمل اللجنة في الاستراتيجية التي نشتغل عليها توظيف الثقافة والفنون لتحقيق الأمن الفكري في المجتمع ونشر الفكر الأصيل والقيم الأصيلة، مثلما استُعملت بشكل مغاير في نشر أفكار هدامة. وهذا الأمر له ضرورة كبيرة لأننا نؤمن بأهمية التنوع في وسائل تثقيف المجتمع.

13. كيف تنظر إلى دور العشائر والتقاليد الاجتماعية في التأثير على البنية الفكرية للمجتمع؟

العشائر واحدة من مراكز التنشئة، ولا ينكر منكر مالها من دور وسلطة في مجتمعنا العراقي، لذلك فإن تهذيب الدستور العشائري إذا صحت تسميته، سيسهم في أن يكون مرجعًا مهمًا للأفكار والقيم، فضلاً عن أن سلطتها تمكنها من أن تكون وسيلة ناجعة من وسائل نشر الأفكار والقيم الصالحة، وهذا هو أعلى درجات الأمن الفكري.

14. ما رأيك في العلاقة بين الفكر السياسي والأمن الفكري؟ هل يؤثر الاستقطاب السياسي على الوعي الجمعي؟

الفكر السياسي هو الركن التأسيسي للأمن الفكري، فكلما كان الفكر السياسي راشدًا، ناضجًا، تعدديًا مبنيًا على الحوار، عزز مناعة المجتمع ضد الانحرافات الفكرية المتطرفة. وكلما كان الفكر السياسي متطرفًا، برزت حركات منحرفة تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الفكري، لأن الأفكار المنحرفة المتطرفة هي نتاج فكري سياسي. فعلى سبيل المثال، بروز حركات القاعدة وداعش والنصرة وغيرها من الحركات الفكرية المنحرفة والمتطرفة، هي نتاج فكري سياسي.



س ع

اضف تعليق