وسط عالم يتبدل بوتيرة متسارعة وتتهدده أزمات غير تقليدية، تبرز أوروبا ككيان سياسي واقتصادي ضخم، لكن عاجز استراتيجياً، فهي قارة تزخر بالالتزامات، لكنها تفتقر إلى الأدوات اللازمة للدفاع عنها.

هذا التناقض الصارخ — بين الطموحات المعلنة والقدرات الفعلية — يكشف عمق أزمة السياسة الخارجية الأوروبية التي باتت اليوم أكثر عجزاً من أي وقت مضى.

وما يفاقم هذا العجز أن أوروبا لطالما اعتادت على مظلة حماية أمريكية مجانية، صارت بمرور الزمن أقرب إلى وهم استراتيجي منها إلى واقع يمكن الاعتماد عليه، لكنها اليوم، تقف أمام لحظة فارقة: إما أن تعيد بناء نفسها كقوة جيوسياسية مكتملة، أو تواصل التراجع نحو الهامش العالمي.

قبل أكثر من ثمانين عاماً، صاغ المفكر الأمريكي الشهير والتر ليبمان معادلة بسيطة لكن عميقة: "السياسة الخارجية لا تستقيم إلا إذا توازنَت التزامات الدولة مع قدرتها على تنفيذها".

وأكد في كتابه "السياسة الخارجية الأمريكية: درع الجمهورية" (1943) أن أي اختلال في هذا التوازن يخلق انقساماً داخلياً ويشجع الخصوم على اختبار هشاشة الدولة.

واليوم، تُجسد أوروبا هذا الاختلال بأوضح صوره، فهي تتبنى التزامات دولية من أوكرانيا إلى البحر الأحمر، ومن الساحل الإفريقي إلى قضايا الهجرة العالمية، لكنها في الوقت ذاته تعاني من ضعف استراتيجي هيكلي يجعلها غير قادرة على حماية مصالحها الحيوية دون دعم خارجي. هذه ليست فقط فجوة استراتيجية؛ بل هي أزمة وجودية.

لثلاثة عقود، استفادت أوروبا من "أمن غير مستحق"، كما وصفه ليبمان؛ أمن موفَّر من قبل الولايات المتحدة، لا نتاج قدرة ذاتية أوروبية، فقد تدخلت واشنطن لحماية البوسنة وكوسوفو، وأسقطت نظام القذافي، وقادت الحرب ضد داعش، وموّلت تسليح أوكرانيا، وتعمل اليوم على تأمين طرق الشحن في البحر الأحمر ضد هجمات الحوثيين — وكل ذلك بينما كانت أوروبا تكتفي بالإدانة، والبيانات، وأحيانًا المراقبة من بُعد.

لكن المتغيرات الجيوسياسية لم تعد تسمح بهذا الاتكال الأبدي، فروسيا أصبحت أكثر جرأة وعدوانية، والصين تزداد اندفاعًا في المحيطين الهندي والهادئ، والولايات المتحدة تعيد ترتيب أولوياتها وتعيد النظر في تكاليف تحالفاتها.

وفي خضم ذلك، تجد أوروبا نفسها مكشوفة، بلا حائط صد حقيقي، سوى خطاب أخلاقي لا يردع خصمًا ولا يحمي حليفًا.

المفارقة الكبرى أن أوروبا، رغم عجزها، لم تتراجع عن التزاماتها؛ بل وسّعتها، فدعوة أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، رغم تداعياتها الجيوسياسية، جاءت دون خطة حقيقية لمواجهة روسيا في حال تصعيد الصراع.

أما في البحر الأحمر، فقد بدا الرد الأوروبي على تهديدات الحوثيين خجولًا، رغم أن 40% من التجارة الأوروبية تمر عبر هذا الممر الحيوي.

حتى في قضايا الداخل، مثل أزمة الهجرة المستمرة من جنوب المتوسط، عجزت أوروبا عن صياغة سياسة موحدة وفعالة، ما زاد من الضغوط الشعبوية والانقسامات السياسية داخلها.

والأسوأ أن الخطاب الأوروبي لا يزال مسكونًا بالمثالية — الحديث عن "القيم المشتركة" و"النظام الدولي القائم على القواعد" و"حرية الملاحة" — دون إدراك أن من لا يستطيع الدفاع عن هذه القيم سيتحول في النهاية إلى ضحيتها.

اليوم، أوروبا أمام خيار لا ثاني له: أن تدفع ثمن أمنها، وهذا يعني شيئًا واحدًا فقط — تسليح حقيقي، سريع، ومكلف. فلم تعد نسب الإنفاق الدفاعي بين 2% و3% من الناتج المحلي الإجمالي كافية؛ بل يجب أن تتضاعف كما فعلت الولايات المتحدة في فترات التهديد الوجودي.

لكن هذا يتطلب أولًا تحولًا ثقافيًا داخل المجتمعات الأوروبية، التي اعتادت لعقود على رفاهية الأمن المجاني وعلى تحويل الدفاع إلى قضية هامشية.

ويتطلب ثانيًا شجاعة سياسية لقبول التضحية الاقتصادية، وزيادة الضرائب، وربما الديون، تمويلًا لإعادة بناء القوة العسكرية الأوروبية.

إن عجز أوروبا الأمني لم يعد شأناً داخليًا. فكل تأخر في إعادة التسلح لا يعرض القارة فقط للخطر، بل يهدد تماسك التحالف الأطلسي ككل، وإذا أرادت أوروبا أن تظل شريكًا لا تابعًا، فعليها أن تسدّ الفجوة بين ما تقول إنها قادرة على فعله، وما تستطيع فعله فعلاً.

وفي النهاية، كما قال ليبمان، فإن "المجتمعات تتحد خلف سياسة خارجية متوازنة، لكنها تتفكك أمام سياسات قائمة على الوهم".

م.ال

اضف تعليق