بين وطأة الأزمات الإنسانية وضعف الرعاية الصحية يعيش السودانيون أوضاعاً مأسوية، إذ وجدوا أنفسهم في مواجهة أخرى أشد ضراوة مع الأوبئة الفتاكة، وفي مقدمها الكوليرا، التي خلفت مئات المصابين، بينما يغادر العشرات منهم الحياة بصمت.

وفي مستشفى "النو"، الوحيد الذي يستقبل حالات مرضية من مدن العاصمة الثلاث، أم درمان وبحري والخرطوم، يعلو صوت أنين المرضى، وتتشابك الحكايات مع المعاناة: مواطنون يعانون الأمرَّين في سبيل توفير المحاليل الوريدية والمستلزمات الطبية، أطباء مرهقون، ونقص حاد في مياه الشرب وسط ارتفاع درجة الحرارة التي وصلت إلى 49 درجة مئوية.

انهيار المستشفيات

تتزامن هذه التطورات مع تدهور الصحة البيئية في مدن سودانية عدة بسبب تلوث المياه واختلاطها بالصرف الصحي وتراكم أطنان القمامة والنفايات ومخلفات الحرب.

في هذا الصدد قال الطبيب المتخصص في مكافحة الأوبئة محجوب سليمان إن "المستشفيات والمراكز الطبية القليلة التي لا تزال تعمل تعاني محدودية القدرة على الاستجابة لمثل هذه الحالات الطارئة، وبهذا الحجم، بخاصة في أم درمان وولايتي الجزيرة وسنار، إذ تستقبل مستشفيات هذه المناطق نحو 120 حالة يومياً، في ظل نقص الكوادر الطبية والأسرَّة، إضافة إلى ندرة المحاليل الوريدية والمستلزمات الطبية". وأضاف أن "الأوضاع صعبة والتأخير في طلب المساعدة الطبية يعني أن عدداً من المرضى يتعرضون لخطر الموت في الطريق أو على أرضية المستشفيات عند وصولهم، وهناك نقص كبير في الخدمات العلاجية وصعوبة في تقديم المساعدات للمصابين".

وأوضح سليمان أن "مريض الكوليرا يحتاج يومياً إلى ما بين 6 و8 محاليل وريدية، ولا يستطيع مواطنون كثر توفير الفاتورة الاستشفائية، خصوصاً بعد نفاد المدخرات المالية وتوقف الأعمال اليومية وعدم صرف رواتب العاملين بالقطاعين العام والخاص لأكثر من عامين".

ويتابع الطبيب المتخصص في مكافحة الأوبئة، "وقف استقبال المستشفيات للمرضى نهائياً، سيناريو لا يستبعد أن تتسع رقعته في الولايات التي ينتشر فيها وباء الكوليرا، مما يهدد صحة الناس، كما أن انقطاع خدمات المياه والكهرباء يؤثر بصورة كبيرة على من يتلقون العلاج، بالتالي أصبحت المستشفيات أمام ظروف إنسانية صعبة في ظل اضطرارها إلى الموازنة بين قدرات الاستيعاب المحدودة والمسؤوليات الصعبة المرتبطة باستقبال مرضى لا تستطيع توفير علاجات مناسبة لهم".

وضع كارثي

تقول المواطنة زهور مصطفى التي تسكن منطقة المزاد بالخرطوم بحري إن "الوضع الصحي في العاصمة كارثي ومأسوي، إذ توقفت غالبية المستشفيات عن العمل، إضافة إلى النقص في المعينات الطبية والأدوية، وكذلك لا تتوافر وسيلة لإنقاذ حياة المرضى بسبب انعدام الوقود ووسائل النقل". وأضافت أن والدها نقل رفقة مئات المرضى الآخرين من مركز العزل في أم درمان إلى مستشفى أمبدة الذي يعاني انعدام معينات الحياة كالأكل والشرب والكهرباء. كما يصعب ازدحام المرضى والمرافقين تقديم الخدمة لمن يحتاجون إليها".

وأوضحت مصطفى أن "المستشفى تحول إلى ثكنة عسكرية لقوات (الدعم السريع) لأكثر من عام ونصف العام، لذا باتت تفتقر لأبسط مقومات الرعاية الصحية، لا سيما بعد نهب الأسرة والمعدات الطبية". وكشفت عن أن "ستة مرضى توفوا خلال يوم واحد بسبب نقص المحاليل الوريدية وعجز أسرهم عن توفير الأدوية، كما أن الأوضاع الصحية لعشرات الحالات مقلقة إلى حد كبير".

تدخلات وانحسار

في السياق قال وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم إن "الوضع الصحي في البلاد يشهد تحسناً متواصلاً، إذ بدأت السيطرة على وباء الكوليرا بدعم الدولة وحكومة ولاية الخرطوم والمنظمات الدولية".

ونوه بأن "موقف الإمداد الدوائي بمدن العاصمة الثلاث، أم درمان وبحري والخرطوم، يكفي لمجابهة الوباء، بخاصة بعد وصول 150 طناً من المحاليل الوريدية، علاوة على تنفيذ حملات تطعيم في مدن السودان كافة". وتوقع إبراهيم "انحسار الكوليرا وفقاً للتدخلات المتكاملة التي تنفذها وزارة الصحة وحكومة ولاية الخرطوم لمحاصرة الوباء من خلال أداء الكوادر العاملة بمراكز العزل والتدابير الوقائية وإصحاح البيئة".

استغاثة عاجلة

على صعيد متصل أوضح الناشط الاجتماعي عروة الصادق أن "الأزمة الحالية لا ترتبط بقصور الصرف الصحي التقليدي، بل بتلوث غير مسبوق في مصادر المياه وانعدام تام للبنية التحتية للصرف الصحي، مما جعل بيئة انتشار المرض مثالية وخطرة إلى حد مرعب".

وأردف، "يحتاج مريض الكوليرا في مدينة أم درمان إلى ما بين 50 و60 محلولاً وريدياً يومياً، وفي ظل الأوضاع الحالية لا تتوفر سوي بضع عشرات. ويعمل الأطباء بلا رواتب ولا حتى قفازات مطاطية للوقاية من الوباء، والمرضى ينتظرون موتهم صامتين".

وأشار الصادق إلى أن "هناك حالات وفاة لأطفال وحديثي ولادة في مستشفى ’البلك‘ بأم درمان نتيجة انقطاع خدمة الكهرباء والمياه، وآخرون لقوا حتفهم بسبب العطش".

وطالب الناشط الاجتماعي بضرورة "إعلان السودان منطقة كوارث ومناشدة المنظمات الدولية، إضافة إلى الضغط على الحكومة لتغيير أولوياتها من السلاح إلى الإنسان، فضلاً عن أهمية إسهام الخيرين في تقديم الأدوية والمياه النقية ومولدات الكهرباء وحضانات الأطفال إلى المستشفيات والمراكز الصحية".

في سياق متصل أشار عضو لجنة الطوارئ الصحية السابق بولاية الجزيرة حسين عبادي إلى أن "انهيار القطاع الصحي وتلوث المياه والغذاء أسباب أسهمت في انتشار وباء الكوليرا في ولايات سودانية عدة".

ولفت إلى أن "الوقاية من الكوليرا، وكذلك العلاج أمر سهل يتمثل في توفر المياه النظيفة والصرف الصحي والرعاية الطبية في وقتها، وكذلك تطهير الأماكن العامة وإغلاق الأسواق الشعبية، ومنع بيع الأطعمة المكشوفة ووقف نقل المياه بوسائل بدائية تفتقر لمعايير الصحة".

ونوه عبادي بأن "مؤشرات السيطرة على الوباء في السودان بدأت تظهر من خلال تحركات وزارة الصحة ودعم المنظمات العالمية وحال الاستنفار الحالي، فضلاً عن جهود حكومات الولايات، إلى جانب نجاح حملات التوعوية لتعريف المواطنين بأسهل طرق الوقاية من الإصابة".

تضارب الأرقام

في غضون ذلك سجل تضارب كبير في الأرقام المعلنة لحالات الإصابة والوفاة جراء تفشي وباء الكوليرا، فقالت وزارة الصحة بالخرطوم إن عدد الإصابات بالكوليرا بلغ 2729 حال بينها 172 وفاة خلال أسبوع، بينما ذكرت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، بأن الحالات في مدينة أم درمان وحدها وصلت إلى 1335 إصابة و500 وفاة.

في المقابل كشف بيان لمنظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف) عن تضاعف حالات الكوليرا في الخرطوم 10 أضعاف، إذ ارتفعت من 90 حالة إلى 815 حالة يومياً خلال 10 أيام فقط في الفترة من 15 إلى 25 مايو (أيار) الجاري، وأشارت إلى أن "مليون طفل في ولاية الخرطوم يواجهون خطر الكوليرا".

وكالات

 

س ع


اضف تعليق