شهد الحضور الإماراتي في قطاع غزة توسّعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، وتنوعت مظاهره بين تقديم مِنح مالية للقطاع المُحاصر، وتنفيذ مشاريع استثمارية وخيرية بواسطة مؤسّسات فلسطينية محسوبة على القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان، والذي يعمل مستشارًا سياسيًا لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان.
هذا التعاظُم للدور الإماراتي في قطاع غزة تزامن مع الحضور القطري القوي هناك، والذي أكسب الدوحة دورًا رئيسًا في أي تسوية سياسية أو مصالحة فلسطينية داخل القطاع؛ ما يُشكّل مساحة للتنافس بين الخصميْن السياسييْن. يحاول التقرير التالي رسم صورة شاملة عن أوجه النفوذ الإماراتي داخل قطاع غزة، وما هي المجالات التي يدخل منها إلى قطاع غزة، ونقاط القوة والضعف لكُلّ فريق في هذا النزاع.
دحلان.. مهندس النفوذ الإماراتي في غزّة
بدأ الإنفاق الإماراتي يتسلّل إلى قطاع غزّة عبر كياناتٍ متنوعة، وكان الحدث الأبرز للحضور الإماراتي العام الماضي من خلال تقديم مِنحة مالية إماراتية، لقُرابة 57 ألف مواطن من مدينة غزة، والتي بلغت قيمتها الإجمالية حوالي 3.2 مليون دولار تقريبًا.
واستبق تقديم الإمارات لهذه الأموال، منحة مالية وعينية جديدة للطلبة الفلسطينيين في قطاع غزة، مع بداية العام الدراسي، شملت توزيع أكثر من 40 ألف حقيبة مدرسية، إلى جانب تقديم منحة مالية بقيمة 150 دولارًا لكل طالب.
وبينما كانت هذه الأموال تتدفق على شكل مشاريع ومنح مالية في قطاع غزة، كان على الجانب الآخر رجل أبوظبي في قطاع غزة دحلان ينسج التفاهمات مع الحركة الفلسطينية، مُحاولًا من خلال هذه المشاورات حجز موطئ قدم له في غزّة لتحسين قدرته على التنافس على خلافة رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عباس، ورابطًا هذا الدعم على استمرار التدفّق المالي واستكمال سلسلة المشاريع، خصوصاً في ظل تعثّر الحركة، بعدما قرّر عباس منع وصول الوقود، وعدم تسليم السكان الرواتب.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أعلنت "اللجنة الوطنيّة الإسلامية للتنمية والتكافل الاجتماعي (تكافل)" خلال مؤتمر صحافيّ عقد في مدينة غزّة، البدء بتنفيذ أكبر مشروع لدعم قطاع الصحة والحاجات الاستشفائية في قطاع غزة، بتمويل ودعم من جمعيّة الهلال الأحمر الإماراتيّة. وتُشكل هذه اللجنة التي أسّسها دحلان، النافذة الرئيسة لعبور المال الإماراتي إلى قطاع غزة؛ إذ تموّلها أبوظبي شهريًا بملبغ يُقدر بنحو بـ15 مليون دولار شهريًا.
ويتكون هذا المشروع من 10 مشاريع مختلفة، تتضمّن صرف الأدوية العلاجيّة والمستلزمات الطبيّة للمرضى، خصوصًا ذوي الأمراض المزمنة، بشكل مجانيّ، ودعم القطاع الصحيّ والمستشفيات العامّة في غزّة بالإمكانات والمعدّات الضروريّة. وإلى جانب المشاريع السابقة، فقد أطلقت الإمارات مشروعًا لدعم الحاجات الخاصّة للمرضى الفقراء في أكتوبر (تشرين الأوّل) من عام 2017، وإطلاق آخر في المجال الأكاديمي لتحرير شهادات الخرّيجين الجامعيّين.
وإلى جانب دحلان، برزت شخصيّة أخرى لتكون من بين قائمة الأشخاص الذين تنسج من خلالهم أبوظبي نفوذها في قطاع غزة، وهي جليلة دحلان، قرينته، والتي برز حضورها المُتكرّر مؤخرًا في قطاع غزة، سواء من خلال زياراتها المُتكرّرة، أو في ضوء حجم المشاريع التي تُشرف عليها الجمعيات التابعة لها مثل المركز الفلسطيني للتواصل الإنساني "فتا"، وتموّله الإمارات.
وتبرز من بين هذه المشاريع الاجتماعية، تنظيم حفل عُرس جماعي على شاطئ بحر غزة، والذي شاركت فيه 400 عروس وعريس من الشرائح المجتمعية الفقيرة في قطاع غزة، وكذلك مشروع علاج 600 حالة في القطاع، وفي الضفة الغربية لمن يعانون من العُقم.
ولا تفوّت جليلة مناسبة داخل أو خارج قطاع غزة؛ حتى توجّه شكرها وامتنانها لقادة الإمارات، وتُثمن أدوارهم في دعم مشاريعها الخيرية والتنموية، وتُكرر التأكيد على "أن دولة الإمارات العربية المتحدة تعد داعمًا رئيسًا للشعب الفلسطيني، خاصة في الجانب الإنساني والوطني، من خلال مشاريع ضخمة تنفذ في كل أماكن وجود الشعب الفلسطيني".
أما المنفذ الثالث لوصول المساعدات الإماراتية فيكون من خلال المؤسسات الدولية، والذي ظهر في تقديم الإمارات مبلغ 2 مليون دولار أمريكي، نهاية العام الماضي، مساعدة لتمويل العجز في برنامج "الأمم المتحدة" المخصّص لتوفير الوقود لتشغيل الكهرباء في المستشفيات بقطاع غزة، إلى جانب توقيع اتفاقية تعاون ثلاثي بين وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية و"الأونروا" ومؤسسة دبي العطاء بقيمة 14.6 مليون درهم إماراتي (4 مليون دولار أمريكي) لدعم برامج التعليم التابعة لـ"الأونروا" (إحدى المؤسسات التي تتبع الأمم المتحدة) في قطاع غزة.
هل يحقق "ريمونتادا" سياسيّة في القطاع من بوّابة المساعدات؟
تزامن تعاظم الإنفاق المالي الإماراتي المستمرّ داخل قطاع غزة، مع بدء التفاهمات بين دحلان وحركة حماس الفلسطينية، والتي تمّت تحت رعاية السلطات المصرية؛ إذ لم يكن لأبوظبي تأثير سياسيّ ملموس داخل القطاع على مدار السنوات الماضية؛ إذ اقتصر حضورها على تمويل بعض المشاريع الخيرية على فترات متباعدة، بصورة متقطّعة.
ففي عام 2015، وبينما كان دحلان يحاول العودة من جديد على الساحة الفلسطينية، ويُمهّد للحوار مع قادة حركة حماس الفلسطينية، كان المال الإماراتي بدأ في التدفق داخل قطاع غزة، محاوِلًا دخول القطاع هذه المرّة مستغلًا أوضاعه المأزومة، في ضوء الحصار الاقتصادي وقرارات الرئيس الفلسطيني محمود عباس العقابية تجاه القطاع، وهو ما تجاوبت معه الحركة، لتخفيف الضغط الإنساني في أنحاء القطاع وتقليص الانتقادات الموجهة إليها في الشارع الغزاوي.
وبدأت الخصومة الكُبرى بين دحلان والحركة الفلسطينية في عام 2007 بعدما فازت حركة حماس بانتخابات المجلس التشريعي، ليستخدم نفوذه وصلاته الأمنية التي اكتسبها حين كان المسئول الأول عن الأمن الداخلي في قطاع غزة، ويحاول بطرق مختلفة إفشال الحركة عبر اعتقال الكثير من الشخصيات والقادة في الحركة، بالإضافة إلى انتشار مزاعم عن إهانات وتعذيب تعرّض لها عناصر من الحركة على يد رجال دحلان، فضلًا عن دوره في التحريض على اغتيال القيادي محمود المبحوح من كتائب عز الدين القسام بفندق في مدينة دبي يوم 19 يناير (كانون الثاني) 2010، وصلاته المشبوهة مع إسرائيل.
وسعت الإمارات في توظيف علاقاتها الجيدة مع سلطات الحكومة الإسرائيليّة، والحكومة المصرية في توصيل المساعدات عبر المعابر التي تتبعها، إلي قطاع غزة، إلى جانب تحويل ملايين الدولارات عبر بنوك مالية تتبع كلا الطرفين، خصوصًا للأُسر التي تأثرت اقتصاديًا بأوضاع الحرب، إلى جانب المصابين وأُسر القتلى أيضًا من حركة حماس.
وبحسب جريدة "تايمز أوف إسرائيل" فقد رسم صورة تفصيلية لآلية تدفق المال الإماراتي، وذكر أنّ الإمارات تقوم بتحويل "مبالغ مالية كبيرة لمحمد دحلان، الذي يقوم بدوره بتحويلها إلى اللجنة، ويعود ذلك في جزء منه لتعزيز تأثيره في قطاع غزة".
وتتساءل الصحيفة كذلك: "من جهة تُعلن مصر عن حربٍ ضدّ حماس، ولكنّها تتجاهل أنشطة دحلان الذي يعمل مع حماس. من جهة أخرى تسمح إسرائيل لممثلي محمد دحلان بالتحرك بحرية بين الضفة والقطاع مع إدراكها التام بالأنشطة التي يقومون بها".
ويُشكل الدعم الإماراتي لحركة حماس، المحسوب على تنظيم الإخوان المسلمين في فلسطين (رغم ابتعادها التنظيمي عن الجماعة في ميثاقها الأخير)، مُفارقة كُبرى في الاستراتيجية الإماراتية التي تبنتها على مدار السنوات الماضية، عبر إعلان الحرب على التنظيم في كل بلدان العالم، سواء من خلال تمويل حركات معارضة له، فضلًا عن تأسيس وسائل إعلامية مناهضة له، في محاولة لتقليص شرعيته وحضوره في البلدان العربية.
ولعل الأمر الذي يٌفسر استثناء حماس من هذه الحرب التي جعلت أبوظبي تؤسس استراتيجية مُغايرة في القطاع وهو إدراكها للثقل السياسي والإستراتيجي للحركة الفلسطينية؛ ما يجعل مسألة سحق الحركة، أو الضغط نحو خروجها من المشهد السياسي أمرًا غير واقعي، فضلًا عن انعكاس ذلك بالفائدة على أبي مازن، خصم دحلان الرئيس، والمُرشح الذي ترغب في الدفع به كبديل للرئيس الفلسطيني في الانتخابات المُقبلة، بدعم الحركة الإسلامية.
موافقة مصر وإسرائيل على دعم الإمارات بواسطة دحلان لحركة حماس، على الرغم من مواقفهم المناوئة للحركة الفلسطينية في السابق، فسره المدير السابق لهيئة الإذاعة الإسرائيلية والمقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوني بن مناحيم بالقول إنّه "برغبة هذه الأطراف في تهيئة الرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي الفلسطيني لخلافة عباس بعد تصاعد خلافاته مع القاهرة، وذلك بتأييد كل من الإمارات العربية المتحدة، وحركة حماس ومنظومة الأمن الإسرائيلية، التي تسعى في النهاية للتخلص، وللمفارقة عبر دحلان، من حماس بقطاع غزة".
الإمارات وقطر في ساحة تنافس جديدة.. العمادي أمام دحلان
في السنوات الأخيرة، وبالتزامن مع خطة ولي العهد الإماراتي الرامية لتوسيع حضور وثقل بلاده في مناطق الصراع العربي، شكّل قطاع غزة واجهة جديدة ضمن هذه الخطة، من أجل انتزاع مساحة تأثير يُنافس من خلالها الحضور القطري التقليدي الواسع في هذا الملف، والتي رسّخت حضورها فيه على مدار السنوات الماضية.
الشخصيّة المركزيّة في الحضور القطري في قطاع غزّة والذي منحه النظام القطري الصلاحيات الكاملة لمتابعة هذا الدور هو محمد العمادي، المهندس القطري الذي أجاد عبر قدرات مالية ودبلوماسية كبيرة أن يجعل دولته الصغيرة ذات تأثير في ملف إقليمي مهّم، عبر نسج شبكة من النفوذ لصالحها داخل الأراضي الفلسطينية من خلال علاقات شخصية مع الفصائل الفلسطينية، وكذلك مع مسؤولين إسرائيليين؛ لتُصبح أحد الأطراف المؤثرة على أيّ مُصالحة في الداخل، منافسًا بذلك عددًا من الدول العربية.
ارتكزت استراتيجية العمادي على خلق نفوذ لبلاده في القضية الفلسطينية على أكثر من مُستوى، منها إعادة توظيف الأموال المدفوعة من جانب بلاده، واستخدامها لخلق دور أكثر فاعلية في القضية الفلسطينية، فضلًا عن مد قنوات الاتصال مع مسؤولي إسرائيل، وهما العاملان اللذان نجحت الإمارات في استنساخهما في تجربتها.
يرسم العِمادي في مقابلة مع قناة "الجزيرة"، طبيعة أدواره التي يُعبر فيها عن سياسة بلاده، قائلًا: "الرسائل التي كنّا ننقلها بين حماس والإسرائيليين هي الرسائل الصحيحة. تتمتّع قطر بمصداقية لدى كلا الجانبين وتحظى بالاحترام بسبب ذلك، بيد أن المصريين يتمتّعون بوضع قوي لأنهم يسيطرون على الحدود مع غزة، وبدونهم، لا يمكنك تحقيق أي شيء".
تتفوق قطر، ربما، علي خصمها الخليجي بعامل أساسي، وهو نسج علاقة مستقرّة وصامدة أمام أي خلاف سياسي محتمل مع حركة حماس، على خلاف الإمارات، التي لطالما شكّكت في الحركة، واتهمتها بممارسة العديد من الأعمال الإرهابية، فضلاً عن وقوع اغتيال محمود المبحوح، أحد أبرز قياديي كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس، من جانب الموساد الإسرائيلي على أراضيها، ومساعيها في بداية الحادثة لتجاهل الكشف عن الجهة المُنفذة أو مُحاكمة مُنفذي العملية.
وتُشكل كُل هذه الوقائع حائلًا أمام تحالف سياسي ثابت ومستقر بين أبوظبي أو ممثلها دحلان مع الحركة الفلسطينية، واقتصار المسألة على تفاهمات، لن ترقى إلى تحالف مستقر وثابت، على خلاف الدوحة التي تتفوق على خصمها في هذا الأمر.
يؤشر على التأثير القطري النافذ على الحركة الفلسطينية، والتفوّق في هذا الملف على خصمها الخليجي، حضورها اللافت في التفاهمات الفلسطينية بين قادة حماس ودحلان، والتي جرت العام الماضي، برعاية القاهرة، على الرغم من استبعادها والخصومة بينها وبين أبوظبي والقاهرة. وظهرت مؤشرات هذا التأثير من خلال وصول وفد حماس إلى القاهرة، قادمًا من الدوحة، بعد مروره باسطنبول، لظروف تعليق جميع الرحلات بين البلدين، والذي غادر إليها بعد انتهاء المفاوضات، وذلك في إشارة قوية على إطلاع قطر على نتائج المفاوضات.
ومثّل المؤشر الثاني تلقّى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني اتصالاً هاتفياً من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في 12 أكتوبر الماضي، تحدّث خلاله هنية عن اتفاق المصالحة الذي جرى توقيعه في القاهرة، والنتائج التي وصلت إليها المُفاوضات. لا ينفصل عن النقطة السابقة التفوّق القطري على الإماراتي في تقديم الدوحة نفسها لواشنطن وأوروبا كمسئولة عن احتواء الحركة، وتنحية الأجنحة المتطرفة داخلها، وكسر شوكة الجناح العسكري، وهو الأمر الذي تكرّر أكثر من مرة في عدّة تصريحات، مثل تصريح وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لقناة "روسيا اليوم" بقوله إن بلاده والدول العربية "تنظر إلى حماس على أنها "حركة مقاومة مشروعة"، مضيفًا أن وجودها في الدوحة منسّق مع واشنطن والعديد من دول المنطقة ضمن جهود للوساطة بين القوى الفلسطينية".
المصدر: ساسة بوست
اضف تعليق