تجري الرياح على غير ما تهوى الولايات المتحدة الأمريكية إذ تجني ثمار تعاونها مع السعودية والإمارات علقمًا مرًا يهدد سلامة جنودها أنفسهم ويضع أسرار تقنياتها العسكرية صيدًا مستباحًا لأعين الأعداء. فقد كشف تحقيقٌ مفصّل أجرته شبكة "سي إن إن" في اليمن وصول الأسلحة والعتاد العسكري الأمريكي إلى أيدي كلّ من القاعدة، بفضل حليفيّ الولايات المتحدة الرئيسيين في حرب اليمن. ونشرت الشبكة نتائج تحقيقها في تقريرٍ على موقعها بالتعاون مع نعمة الباقر وسلمى عبد العزيز ومحمد أبو الغيط ولورا سميث سبارك.
كيف وصل السلاح الأمريكي إلى الأيدي الخطأ؟
أسفرَ تحقيق "سي إن إن" عن نقل السعودية وشركائها في التحالف أسلحة أمريكية الصنع إلى مقاتلين مرتبطين بالقاعدة وميليشيات سلفية متشددة وفصائل أخرى تخوض الحرب على اليمن، ما يطرح احتمال تعريض حياة القوات الأمريكية في مناطق الصراع الأخرى للخطر وفقًا للتقرير.
استخدمت السعودية والإمارات-شريكتها الرئيسية في الحرب- الأسلحة المصنّعة في الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة عملةٍ لشراء ولاءات الميلشيات أو القبائل، ودعم الجهات المسلحة المختارة، والتأثير على المشهد السياسي المعقد وذلك وفقًا للقادة المحليين على الأرض والمحللين الذين تحدثوا إلى "سي إن إن".
من خلال تسليم هذه المعدات العسكرية إلى أطرافٍ ثالثة، فإن التحالف الذي تقوده السعودية يخرق شروط مبيعات الأسلحة مع الولايات المتحدة الأمريكية وفقًا لوزارة الدفاع الأمريكية. وبعد أن عرضت سي إن إن نتائجها أعلاه، أكد مسؤول دفاعي أمريكي وجود تحقيقٍ جارٍ في هذه القضية.
تثير هذه الاكتشافات أسئلة جديدة حول احتمالية فقدان الولايات المتحدة سيطرتها على حليفٍ رئيسي يترأس واحدة من أكثر الحروب المروعة في العقد الماضي، وما إذا كانت السعودية مسؤولة بما فيه الكفاية ليُسمح لها بمواصلة شراء الأسلحة المتطورة والعتاد العسكري. وقد أثبتت تحقيقات "سي إن إن" السابقة استخدام أسلحة أمريكية الصنع في سلسلةٍ من هجمات التحالف السعودي الفتاكة المتسببة بقتلِ عشرات المدنيين، العديد منهم من الأطفال.
وتأتي هذه التطورات أيضًا في وقتٍ ينظر فيه الكونجرس الغاضب من الرياض بشأن جريمة قتلِ الصحفي جمال خاشقجي في العام الماضي، فيما إذا كان سيفرض إنهاء دعم إدارة ترامب للتحالف السعودي المعتمد على الأسلحة الأمريكية في شن حربه.
في عام 2015، شكلت الرياض تحالفًا حربا على اليمن وقتل التحالف عشرات الالاف من المدنيين. قسمت الحرب البلاد إلى قسمين، ومعها جاءت الأسلحة بأنواعها، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدبابات والمركبات المدرّعة والليزر المتتبع للحرارة والمدفعية-ذلك كله يتدفق إلى مكانٍ معقد وخارج عن السيطرة.
ومنذ ذلك الحين، تنقلت "المعدات العسكرية الجميلة" -كما وصفها ترامب ذات مرة- المصنوعة في أمريكا، أو بيعت أو سرقت أو تُركت ضمن حالة الفوضى في اليمن، حيث التحالفات الغامضة والسياسات المتصدّعة وبالتالي أملٌ ضئيل في أيّ نظام للمساءلة أو التتبع.
استفادت بعض الجماعات الإرهابية من تدفق الأسلحة الأمريكية، خصوصًا الآن مع تخفيف الحواجز أمام دخول الأسلحة المتقدمة بموجب قوانين العرض والطلب. حظي زعماء الميليشيات بفرصةٍ سانحة لحيازة العتاد العسكري مقابل القوى البشرية لمحاربة الجيش اليمني. انتعش تجار الأسلحة مع عرض المتداولين شراء وبيع أيّ شيء، بدايةً من بندقية مصنعة في الولايات المتحدة الأمريكية وصولًا إلى الدبابة، لمن يزايد أكثر.
أسلحة أمريكية للبيع.. في تعز
في أزقة منطقة تعز التاريخية وشوارعها الضيقة المتداعية، تقع متاجر الأسلحة بين محلات الثياب النسائية. أسواق الأسلحة غير قانونية في اليمن، لكن هذا لا يمنعها من العمل علنيًا في هذه المدينة الجبلية الكبيرة في جنوب غرب البلاد.
يصف التقرير المشهد هناك بوضوح، فمن جانب ترى العباءات والحجابات والفساتين الملونة معلقةً للبيع، وفي الجانب الآخر المسدسات والقنابل اليدوية والبنادق الهجومية الأمريكية معروضة في ترتيبٍ خاص.
صورت كاميرات "سي إن إن" السريّة تداولًا تجاريًا في أحد أسواق الأسلحة حيث وضعت الحلويات بين الذخيرة. سألت شبكة "سي إن إن" أحد تجار الأسلحة: "هل لديك أسلحة أمريكية هنا؟"، ليجيبهم: "الأسلحة الأمريكية باهظة الثمن ومرغوبة".
في سوقٍ آخر من أسواق المدينة، كان هنالك صبيٌ بدا صغيرًا في السن يتعامل مع الأسلحة مثل خبير. كان الرجال يمزحون ويمضغون القات وبدت الأجواء عادية. لا تتعامل هذه المتاجر مع طلبات الشراء الفردية فقط، بل يمكنها أن تزود الميليشيات أيضًا-وهي السوق السوداء غير المخفية فعلًا والتي تحفزّ إلى حد ما الطلب على الأسلحة الأمريكية ذات التقنية العالية وإدامة دائرة العنف في اليمن.
كانت تعز مركزًا للثقافة في اليمن، لكنها أصبحت الآن برميل بارود أشعلَ حربًا داخل الحرب في العام الماضي، حينما انقلبت الميليشيات المختلفة المدعومة من التحالف ضد بعضها. ووسط فوضى الحرب في البلد عامةً، شق تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية طريقه نحو الخطوط الأمامية في تعز عام 2015، وشكل تحالفات مواتية مع الميليشيات الموالية للسعودية للقتال جنبًا إلى جنب.
واحدة من تلك الميليشيات المرتبطة بالقاعدة في شبه الجزيرة العربية هي لواء أبو العباس، الذي يمتلك الآن عربات مدرعات أمريكية الصنع من طراز أوشكوش وقد عرضها في موكب استعراضٍ عسكري أجراه عام 2015 ضمن المدينة.
صنّفت واشنطن القيادي أبا العباس مؤسس اللواء إرهابيًا عام 2017، ولكن الميليشيا التابعة له ما تزال تتمتع بدعم التحالف السعودي وجرى استيعابه ضمن اللواء 35 من الجيش اليمني. وفي هذا الصدد تنقل شبكة "سي إن إن" تصريح شركة أوشكوش الأمريكية لها: "تلتزم شركة أوشكوش ديفينس بدقة بجميع القوانين واللوائح الأمريكية المتعلقة بمراقبة الصادرات".
وصلت مختلف أشكال الأسلحة الفتاكة إلى المدينة وفقًا للتقرير. في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، تفاخرت القوات العسكرية الموالية للتحالف السعودي على وسائل الإعلام المدعومة من السعودية والإمارات باستخدام السعوديين صواريخ التاو الأمريكية المضادة للدبابات في نفس الجبهات التي كان ينشط بها تنظيم القاعدة في ذلك الوقت. وأكد المسؤولون المحليون حدوث القصف بتلك الصواريخ، لكن أحبطت محاولات شبكة "سي إن إن" لإجراء مقابلات أخرى وتعرّض الفريق للترهيب من قبل الحكومة المحلية، وعقّب أحد الناشطين المحليين على هذا مازحًا باحتمال أن تكون الأسلحة قد بيعت.
عتادٌ أمريكي مهجور في الحديدة
عند رؤية الساحة التي تُرك بها العتاد العسكري الأمريكي قرب مدينة الحديدة (وهي بؤرة توتر حاليًا وموضع ميناء استراتيجي)، يتضّح مدى محاباة ألوية العمالقة وهي إحدى الميليشيات السنية السلفية المتطرفة. تصطفّ بضع مركبات مدرعة مضادة للكمائن والألغام جنبًا إلى جنب، على أغلبها ملصقاتٍ لشعار ألوية العمالقة وعلى أحدها ملصق التصدير الذي يُظهِر أنها أُرسلت من بومونت من ولاية تكساس الأمريكية إلى أبوظبي في الإمارات، قبل أن ينتهي بها المطاف في أيدي الميليشا وفقًا للتقرير.
يكشف الرقم التسلسلي لمدرعة أخرى تصنيعها من قبل شركة ناڤيستار الأمريكية التي تعد أكبر مزود مركبات مدرعة للجيش الأمريكي. صُمّمت هذه المركبات المدرّعة الملائمة لكل التضاريس لتحمّل نيران الأسلحة الباليستية وانفجارات الألغام والأجهزة المتفجرة يدوية الصنع، وهي "المركبة التي يريدها كل طاقم عند الوجود في الميدان" وفقًا لوصف موقع الشركة على الإنترنت. رفضت الشركة التعقيب على هذا التقرير وفقًا لشبكة "سي إن إن".
يلزم القانون الجهات المستفيدة من الأسلحة الأمريكية بالتقيد باشتراطات الاستخدام النهائي والتي تحظر نقل أيّ معدات لأطرافٍ ثالثة دون إذنٍ مسبق من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن لم يُمنح ذلك التفويض أبدًا ورغم الطلبات المتعددة للتعليق لم يستجب الائتلاف السعودي وفقًا للتقرير. نفى مسؤول كبير في الإمارات انتهاك بلدِه لاتفاقيات المستخدم النهائي "بأيّ شكلٍ من الأشكال" حسب ما تورده شبكة "سي إن إن"، معقبًا بأن لواء العمالقة "جزء من القوات اليمنية" وأن الميليشيا كانت تحت إشراف الإمارات المباشر، وبالتالي كانت المعدات ضمن "الحيازة المشتركة" للتحالف.
وعندما سُئلت وزارة الدفاع الأمريكية تحديدًا عن ألوية العمالقة، أجابت بعدم منحها السعودية أو الإمارات الإذن بتسليم الأسلحة الأمريكية إلى فصائل أخرى على الأرض. وينقل التقرير تصريح المتحدث باسم البنتاجون جوني مايكل لشبكة "سي إن إن": "لم تأذن الولايات المتحدة الأمريكية للسعودية أو الإمارات بإعادة نقل أيّ معدات إلى الأحزاب داخل اليمن. لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة التعليق على أيّ من التحقيقات المعلّقة الخاصة بمزاعم انتهاكات الاستخدام النهائي للمواد والخدمات الدفاعية المحوّلة إلى حلفائنا وشركائنا".
التكلفة البشرية للصراع
يغذّي فيضان الأسلحة الأمريكية صراعًا أودى بحياة عشرات الآلاف، من بينهم أطفال في حافلاتٍ مدرسية وعائلات تفرّ من العنف، ودفع ملايين آخرين إلى حافة المجاعة. الإحصائيات صادمةٌ على كل صعيد في هذه الحرب، من حالات سوء التغذية للأطفال والرضع والصور المؤلمة التي تأتي من هناك باستمرار إلى تدهور المرافق الطبية وانتشار البطالة والفقر بسبب قلة التمويل وويلات الحرب.
في الوقت نفسه، ازدهرت أحوال الكثيرين من الشخصيات السياسية والجهات المسلحة الرئيسية في المنطقة بفضلِ الصراع، وبالتالي لا تتماشى مصالحهم مع أيّ عملية سلام محتملة من شأنها أن تهدد مكاسبهم المالية.
الولايات المتحدة هي أكبر مورد للأسلحة لكل من السعودية والإمارات، ويعدّ دعمها أمرًا حاسمًا لحرب التحالف التي تقودها السعودية على اليمن كما يوضح التقرير. يحاول المشرّعون الأمريكيون تمرير قرارٍ ينهي دعم إدارة ترامب للتحالف ولكن لا يبدو على البيت الأبيض جاهزيتّه للإصغاء لهم بالرغم من جميع الأدلة على المخاطر التي تجلبها تصرفات السعودية الحليفة للولايات المتحدة على سلامة الأمريكيين. ويذكّر التقرير بتصريح ترامب في أعقاب اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي العام الماضي حين قال إنه من الحماقة أن تلغي الولايات المتحدة صفقات الأسلحة مع السعوديين والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، مضيفًا: "لا أريد فقدان كل ذلك الاستثمار الذي يأتي إلى بلادنا".
اضف تعليق