عدو لم يكن في الحسبان، أصبح يشكل تهديدا وجوديا لحركة الشباب الصومالية، التي تنحصر سلطتها وسط البلاد، أمام زحف رمال الجوع والجفاف، التي دفعت آلاف السكان للتمرد على سلطتها بعد سنوات من الخضوع.
إذ تحول التغير المناخي في الصومال، إلى لعنة أصابت حركة الشباب في مقتل، بعد أن دفع الجفاف قبائل كانت خاضعة للتنظيم التابع للقاعدة إلى التمرد عليه، ورفض دفع الضرائب بعد أن جفت الآبار، وأقفرت الأرض، وماتت أعداد كبيرة من الماشية، وأصبح الموت بالرصاص أهون من الموت جوعا.
فعادة ما لعب الجفاف دورا لصالح الجماعات الإرهابية، وساعدها في تجنيد مزيد من الأتباع الغاضبين على حكوماتهم على غرار ما يجري في منطقة بحيرة تشاد.
ـ انقلب الجفاف على "الشباب"
وحاولت حركة الشباب استغلال الجفاف والتغير المناخي لصالحها، من خلال تجنيد المزيد من الأطفال والأتباع، مقابل الحصول على الغذاء وقليل من المال، التي تجمعه من جني الضرائب والإتاوات وأموال "الزكاة".
لكن انقلب السحر على الساحر، كما انقلب التغير المناخي على حركة الشباب، إذ ضاق الصوماليون ذرعا من الضرائب المرتفعة والإتاوات التي تأخذها حركة الشباب منهم رغم المجاعة التي تضرب البلاد، والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها واحدة من أسوأ المجاعات على مدار 70 عاما مضت، والتي تواجه منطقة القرن الإفريقي.
ونظرا لسيطرتها على طرق التجارة المحلية بين الولايات والأقاليم، تفرض حركة الشباب ضرائب على التجار للسماح لهم بالعبور والمرور إلى وجهتهم، مما أثار استياء التجار، وأثار غضب العشائر.
وبالغت حركة الشباب في استفزاز السكان المحليين الذين آرقهم الجفاف والتصحر، عندما راحت تردم الآبار، كنوع من سياسة الأرض المحروقة.
وهذه الممارسات المتشددة دفعت العشائر خاصة في وسط البلاد، للثورة على حركة الشباب بدعم من الرئيس الجديد للبلاد حسين شيخ محمود، الذي له رؤية أكثر استراتيجية في مكافحة حركة الشباب فكريا واقتصاديا وعدم الاكتفاء بمحاربتها أمنيا وعسكريا.
إذ دعم الجيش الصومالي العشائر في ثورتها ضد حركة الشباب، لأنه يدرك أنه لا يمكنه الحفاظ على البلدات المحررة إلا بدعم العشائر المحلية، التي تعرف جيدا جغرافية الأرض أكثر من الجنود، ويمكنها حماية أفرادها وعائلاتهم ضد حرب العصابات التي تجيدها الحركة.
ناهيك أن العشائر بإمكانها توفير الدعم اللوجيستي للجيش، خاصة من ناحية المعلومات، وأيضا تجفيف الحاضنة الشعبية لحركة الشباب، ومصادر تمويلها لإضعاف قدرتها على التجنيد، ودفع مرتبات عناصرها.
وسبق للجزائر أن جربت هذا الأسلوب في التسعينات، عندما وفرت السلاح لما يسمون بـ"عناصر الدفاع الذاتي"، حتى يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم في المناطق النائية التي لا يصل إليها الجيش إلا نادرا.
وأيضا وحدات "الحرس البلدي"، وهي كتائب شبه عسكرية تتشكل من عناصر محلية وتتولى إسناد وحدات الجيش في مكافحة الإرهاب بالنظر إلى درايتها بجغرافية المنطقة، خاصة الجبلية منها والغابية ذات التضاريس المعقدة.
ـ تراجع مناطق سيطرة "الشباب"
إلى وقت قريب كانت سيطرة حركة الشباب على مناطق واسعة في وسط وجنوب البلاد إلى غاية الحدود الكينية جنوبا والحدود الإثيوبية غربا.
ومع مجيء الرئيس حسن شيخ محمود، إلى السلطة في 15 مايو الماضي، واتباعه سياسة هجينة في مكافحة حركة الشباب، نجح في تحرير عشرات البلاد والمناطق، أغلبها في وسط البلاد، لكن مازالت مناطق شاسعة في الجنوب خاضعة لسيطرتها.
غير أن أكبر انتصار استراتيجي حققه الرئيس شيخ محمود، عندما تمكنت وحدات من الجيش بدعم من مسلحي العشائر من تحرير مديرية "آدم يبال"، في ولاية شبيلي الوسطى، التابعة لمقاطعة هيرشبيلي (وسط)، والمحاذية للعاصمة مقديشو من جهة الشمال
ففي 6 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أعلن الرئيس شيخ محمود، عن تحرير "أدم يبال" (نحو 250 كلم شمال غرب مقديشو)، والذي اعتبره "آخر وأهم معقلها في هيرشبيلي".
فآدم يبال، تضم نحو نصف مليون نسمة، وتقع في تقاطع مثلث ولايتي شبيلي الوسطى وهيران، التابعتين لهيرشبيلي، مع مقاطعة "وغلغدود" إلى الشمال منها.
وبسيطرة القوات الحكومية عليها تكون حركة الشباب فقدت قلعتها الرئيسية في الأقاليم الوسطى.
إذ أن آدم يبال، كانت تمثل أكبر تجمع سكاني تسيطر عليه حركة الشباب، في الأقاليم الوسطى، بل ومركزها المالي الذي منها تجمع الضرائب والإتاوات وأموال الزكاة، وحقوق العبور من التجار والشاحنات التجارية التي تمر عبر المدينة، بحكم وقوعها بين ثلاث ولايات، ونقطة وصل بين الأقاليم الجنوبية والوسطى.
كما أنها كانت مركز تجنيد وقاعدة تدريب لعناصر التنظيم الإرهابي، الذي تأسس في 2004، وتمدد أكثر في 2007، قبل أن يتم طرده من معظم المدن الرئيسية ما بين 2011 و2012.
ورغم طرده من هيرشبيلي، التي تمتد من تخوم مقديشو شرقا إلى الحدود الإثيوبية غربا، إلا أن عناصر الشباب، مازالوا يتمركزون غرب نهر شبيلي، بالأطراف الغربية للمقاطعة، ويشنون بين الحين والآخر هجمات على بلدات شرق النهر باستعمال القوارب للعبور من ضفة إلى أخرى.
إذ من السابق لأوانه الحديث عن طرد نهائي لعناصر الشباب من هيرشيبلي، في ظل تواجدهم شمال وجنوب المقاطعة وحتى غربها على الحدود مع إثيوبيا، بحسب وسائل إعلام محلية.
ففي مقاطعة غلغدود، شمال هيرشبلي، وجه الجيش الصومالي ضربات قوية لحركة الشباب، وتصدى لعدة هجمات نفذتها في المقاطعة، لكنه لم يتمكن بعد من تحريرها بالكامل.
أما في مقاطعتي جنوب غرب الصومال، وجوبا لاند، فهدد الرئيس شيخ محمود، بإطلاق "عملية عسكرية واسعة النطاق ضد مسلحي حركة الشباب".
أما مقاطعتي الشمال المتمثلة في بونت لاند وأرض الصومال، فلا يتواجد بهما نشاط هام لحركة الشباب.
والمرحلة المقبلة، من شأنها أن تشهد تكثيف الجيش الصومالي هجماته على معاقل حركة الشباب في مقاطعة غلغدود، ذاتية الحكم، لتطهير النصف الشمالي من البلاد من العناصر المتشددة، قبل التوجه لتحرير المناطق الخاضعة للتنظيم في النصف الجنوبي.
فعدم استيعاب حركة الشباب لمدى تأثير التغيرات المناخية المتطرفة في تفكير الناس بعد أن مس الجفاف قوت يومهم، جعلها تفقد حاضنتها الشعبية، وبعض تحالفاتها مع عشائر المنطقة الوسطى.
وفهم الرئيس شيخ محمود، هذا التحول المناخي والاجتماعي والاقتصادي، وحاول الاستفادة منه سياسيا.
حيث استقطب الرئيس أحد رموز حركة الشباب ومؤسسها، وهو الشيخ مختار روبو، الذي انسحب منها في 2017، وعينه وزيرا للشؤون الدينية.
وهي خطوة ذكية من شأنها تشجيع عناصر حركة الشباب الأقل تطرفا، للانسحاب منها والعودة والاندماج في المجتمع مثلما حدث في الجزائر ضمن ما يسمى المصالحة الوطنية، ويحدث حاليا في نيجيريا وبدرجة أقل في مالي.
اقتصاديا، من شأن تحرير المدينة التاريخية آدم يبال، المعقل الرئيسي لحركة الشباب، حرمانها من مورد مالي هام، سيضعف قدرتها على التجنيد وتمويل عملياتها، ومن شأنه دفع قطاع من عناصرها للتخلي عنه، خصوصا في ظل الضغوط الحكومية والأمريكية على الشركات الصومالية لمنعها من تمويل الحركة، والتلويح بفرض عقوبات عليها.
أمنيا، دخول سلاح الطيران بدون طيار سواء الأمريكي أو التركي بكثافة ساحة العمليات من شأنه تدمير وتشتيت الكتائب الكبيرة لحركة الشباب، ودفعها للانقسام لمجموعات صغيرة والتخلي عن الأرض واعتماد حرب العصابات.
لأن استمرار سيطرة حركة الشباب على مساحات واسعة من البلاد من شأنه أن يتسبب لها في خسائر كبيرة في الأرواح، وهذا ما شهدته المعارك الأخيرة التي قتل فيها العشرات من عناصر الشباب.
والملاحظ أن القوات الخاصة الصومالية، التي خضعت لتدريبات على أيدي خبراء دوليين؛ أمريكيين أو أتراك، أصبحت تبلي بلاء حسنا في المعارك، مقارنة بسنوات خلت، ما يعني أن الصومال نجح في تشكيل نواة لجيش احترافي وقوي يمكن الاعتماد عليه مستقبلا دون الحاجة إلى مساندة من القوات الإفريقية.
كما أن مسلحي العشائر والملقبين محليا بـ"أصحاب الإزارات"، يبدون مقاومة شرسة في الدفاع عن المناطق المحررة، رغم ضعف تسليحهم وتدريبهم.
وإذا تواصلت المعارك بنفس الوتيرة، ونجحت الحكومة في تجفيف الدعم المالي والعشائري لحركة الشباب، وتم فتح باب المصالحة "للتائبين"، فإن التنظيم الإرهابي لا يمكنه مواصلة السيطرة على مساحات واسعة من الأقاليم الصومالية، وسيضطر في النهاية لترك الأرض والدخول في حرب عصابات مثلما يحدث اليوم لتنظيم داعش في سوريا والعراق وليبيا.
المصدر: الأناضول
اضف تعليق