مازلت الخدمة الحسينية خلال زيارة الاربعين في كربلاء المقدسة محط انظار العالم باسرة، سيما وانها تعتمد بنسبتها الاكبر على المجهود الطوعي لألاف المواكب وعشرات الالاف من المتطوعين الذين يقدمون خدمات الطعام والشراب والمبيت والنقل والعلاج...الخ، لملايين الزوار، السائرين على اقدامهم، وعلى مدى اكثر من اسبوعين.
هذا الامر اثار الكثير من علامات الاستغراب والنقد بعد ان قارنوا بين هذه الخدمة الطوعية لاكثر من 15 مليون (والعدد في تزايد مستمر) وبين الخدمات التي تقدم لحجاج بيت الله الحرام (عددهم لا يتجاوز 3 مليون في اعلى حد، ودعا الكثير من الكتاب الى طرح هذه القضية امام الرأي العام.
الكاتبة وخبيرة التربية السعودية، نداء ال سياف، عقدت هذه المقارنة قبل اكثر من سنتين في مقال نشر على صحيفة (جهينة)، والذي تعيد وكالة النبأ للأخبار نشرة عل العالم يرى حقيقة هذه الخدمة وعظمتها التي تجاوزت كل الحود والمقاييس الانسانية الطبيعية.
لقد آن الأوان أن يسحب خَدَمَة زوار الإمام الحسين في كربلاء البساط من تحت أقدام حاتم الطائي وغيره ممن اشتهروا بالكرم عبر التاريخ، فلطالما كان إسم حاتم الطائي مقرونا بالكرم والجود والعطاء بلا حدود، بيد أن بوصلة التاريخ لابد أن تتغير اليوم والأمثال لابد لها أن تتحول، فعطاء حاتم يتوارى أمام عطاء أهالي العراق لزوار الأربعين.
لقد شاهد العالم بأسره قبل أيام، شلالا بشريا جاء من مختلف البقاع والمدن ومن جميع المذاهب والانتماءات والتوجهات، في زحف مليوني قل نظيره على طريق ”المشاية“ كما يطلق عليه، بين مدينة النجف الأشرف إلى مدينة كربلاء المقدسة بالعراق، إيمانا منهم بأن الحسين للإنسانية كافة، لا للمسلمين الشيعة فقط.
وخلال هذه المسيرة المليونية التي تستغرق العشرة أيام التي تسبق مناسبة أربعين الإمام الحسين، يصاب المرء خلالها بالعجب والذهول فعلا، من عمق العطاء والكرم، الذي هو أشبه بـ ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، والذي لا يمكن وصفه ولا الحديث عنه إلا أن تكون ممن نال شرف المشي للحسين على الأقدام.
عندها حقا ستدرك مكانة وعظمة الحسين في قلوب هؤلاء الناس، وستعرف تفسير الزوار في نعتهم لكربلاء ب الجنة.
ما دفعني لكتابة هذه المقالة في الحقيقة، هي صدمة المقارنة، بين الكرم والسخاء اللامتناهي الذي يلقاه زائرو كربلاء ماديا ونفسيا، وبين ما يجري في بلادنا من جفاء لحجاج بيت الله الحرام.
فقد حظيت خلال العشر سنوات الماضية بخدمة الحجاج في أكثر من حملة للحجيج، إلا أنه وعلى النقيض من كل الخدمات المجانية التي يلقاها الزائر الماشي على قدميه بين النجف وكربلاء على مدى ثلاثة أيام أو أكثر والتي تبدأ من الغذاء والسكن والخدمات الصحية، ولا تنتهي بخدمة تدليك الأقدام وتلميع الأحذية، لم أجد في مكة المكرمة أكثر من علبة ماء تلقيتها ذات مرة على طريق منى!.
الفرق شاسع ولا مجال أصلا للمقارنة، بين ما يلقاه زائرو كربلاء وزائرو مكة،في الأولى يستجديك الناس طمعا بالتشرف في خدمتك مجانا، أما الثانية فما عليك إلا أن تحمد ربك كي لا تضطر للاستجداء نتيجة الأسعار المتصاعدة صاروخيا عاما بعد عام في السكن والغذاء والنقل.
على طريق المشاية، ورغم أنك تسير في طرقات دولة تحولت إلى مصاف الدول الفقيرة نتيجة الحرب، إلا أن رأسك سيصاب بالدوار بمجرد التفكير في عقد مقارنة بينها وبين دولتي المتقدمة والغنية التي يفدها ملايين الحجاج.
ففي عرصات مكة المكرمة وحينما تتعب من السير وأنت متوجه إلى أرض منى مثلا، فلا بديل أمامك إلا أن تجبر نفسك جبرا على مواصلة المسير حتى لو هلكت، بينما – وكأبسط خدمة متوفرة على طريق المشاية – فالطريق يعج بمئات المخيمات المجانية والمواكب والتي تتسابق لاستقبال الزائر وتقدم له خدمات الراحة والنوم والغذاء وحتى خدمات التدليك والمساج الطبيعي لمن أعياهم المشي.
في طريق المشاية، لست بحاجة إلى التنقل بأمتعتك وحاجاتك الاساسية، فهناك تتوفر كل الخدمات، بل وتصل إلى الكماليات في أحيان كثيرة.
فعلاوة على المضايف المختصة بتوزيع صنوف الأطعمة والمشروبات الساخنة والباردة طوال المسيرة التي قد تمتد لأكثر من ثلاثة أيام عند بعض كبار السن والمرضى.
وعلى مدار ال24 ساعة، هناك مواكب ومضايف تقدم لك خدمات الشحن للهواتف النقالة مجانا وتمنح الزائر خدمة الاتصال المجاني بعائلته في أي بقعة من العالم، وفي ذات الطريق فأن أبسط وأصعب الحاجات ستجد لها أهالي سخروا أنفسهم وأرواحهم وأموالهم وخبراتهم لهذه الخدمة ومن كل بقاع العراق، فهذا الطبيب والاستشاري يقف أمام المفرزة الطبية، التي تقدم خدمات العلاج وتوزيع الأدوية، وذاك الميكانيكي بسط أدواته لتصليح عجلات العربات التي يمتطيها الأطفال الصغار، وعلى الوجهة الثانية ترى من جهز طاولته بمختلف أنواع الكتب والمطويات إيمانا بأن رسالة الحسين شاملة في كل جوانبها ، وترى رجال الدين قد نصبوا خيامهم لتقديم الاستشارات والرد على الاستفتاءات الدينية لدى الزوار وتصحيح قراءة السور ولا تتوقف الخدمات على هذا الجانب ، ففي طريق المشاية لا تشعر «بورطة» لو اتسخت ملابسك لأي سبب كان ، فهناك من يقف مجهزا غسالات الملابس والكي وخياطتها منتظرا للزائر لخدمته!.
في الزحف المليوني نحو كربلاء رغم الصقيع والبرد القارص والأمطار لست بحاجة إلى عمال النظافة ، ولا إلى البلديات ، والسبب يعود أن جميع أهالي العراق، الغني منهم والفقير والمتعلم والأمي تراهم في طريق المشاية يحملون مكنستهم بكل تواضع خدمة للزوار وإيمانا برسالة الحسين.
في طريق المشاية، كنت أود لو أن أحدا من وزارة الحج في بلادنا، حضر هذه التظاهرة العالمية السلمية ضد التطرف وضد العنف، حتى يشاهد العطاء الخيالي ويستلهم دروسا في الضيافة والكرم من الأهالي البسطاء الذين لا يتوانون ولو للحظة في تقديم كل ما يمكنهم لأجل الزوار، دون النظر إلى قيمته وحجمه.انتهى/س
نداء آلِ سياف
اضف تعليق