أن جميع المؤشرات العالمية تؤكد استحالة صعود سعر النفط إلى المستويات السابقة بسبب إمكانية إنتاج النفط الصخري وبكميات كبيرة جداً فيما لا يقل عن اربعين دولة في العالم ومن ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية والصين بتكلفة تتراوح بين (70-50) دولار للبرميل، وهذا معناه أن النفط على المدى البعيد سيتراوح سعر البرميل بين (80-55) دولار للبرميل في أحسن الأحوال، اما على المدى القريب فسيشهد انخفاضا آخر حيث من المتوقع أن يصل إلى ما يقارب ال (30) دولار للبرميل أو قد أقل بسبب زيادة الإنتاج الإيراني والليبي والعراقي خلال العام القادم وما بعده من الأعوام.
واستنادا إلى هذا الواقع فسيكون هناك عجز كبير في الموازنة لا يقل عن ثلاثين مليار دولار سنوياً كموازنة اعتيادية، ولكن إن قرر العراق ايقاف كافة المشاريع الاستثمارية فسيتراوح العجز بين ثمانية مليارات إلى خمسة عشر مليار دولار اعتمادا على مجموعة من المتغيرات أهمها كلفة الحرب على داعش وسعر برميل النفط في السنة ألقادمة.
أمام هذا الواقع هناك حلين لا ثالث لهما:
الحل الأول: الاقتراض من جهات دولية مختلفة اعتمادا على سندات الخزينة أو أي وسيلة أخرى، وقد اختارت الحكومة للأسف الشديد هذا الخيار وقبلت الاقتراض من المصارف العالمية بفائدة سنوية تتجاوز ال 10% حتى عام 2028، إن اختيار هذا الطريق سيعرض اقتصاد البلد إلى انهيار كامل، ليس بسبب القرض الذي يتراوح بين الستة إلى ثمانية مليارات دولار بهذه الفائدة العالية فحسب، ولكن بسبب فتح باب الاقتراض لتغطية عجز الموازنة مما يعني الاقتراض في كل سنة قادمة لتغطية العجز، وبعملية حسابية بسيطة جداً اعتمادا على المعطيات الحاضرة وعلى فرض أن الزيادة في الإنتاج النفطي سيقابله تدهور أسعار النفط كما ذكرنا سابقاً، ففي عام 2028 إن أستمر الوضع على ما هو عليه الآن فسيكون مجموع القروض بحدود 84 مليار دولار ومجموع الفائدة المترتبة عليها ستبلغ 63 مليار دولار، أي أن العراق سيقع تحت دين يتجاوز 147 مليار دولار.
وهذا يشكل ثلاث أضعاف وارد النفط الآن، في حقيقة الأمر فإننا لن نصل إلى هذه المرحلة لأن اقتصاد البلد سينهار قبل ذلك بوقت طويل ولن يتوفر المجال لإقراض العراق من قبل أي جهة عالمية، وسيرهن البلد وترهن سيادته وتفرض قيود اقتصادية كبيرة ومتعددة كزيادة سعر الوقود وزيادة كلفة المواد الغذائية وزيادة الضرائب والكهرباء والماء وسينهار الدينار العراقي، وسيعاني المواطن معاناة كبيرة جداً، بل من الممكن في هذه الحالة ان تحدث أمور أخرى أسوأ لا يمكن التنبؤ بها الآن.
الحل الثاني : تخفيض قيمة العملة العراقية, إن نزول قيمة العملة هو أمر طبيعي في الكثير من دول المنطقة، ونزول العملة يؤثر في أول الأمر سلباً على الزيادة في أسعار السلع والمواد المستوردة، ولكنه على المدى البعيد يوفر الأرضية لتحقيق نهضة صناعية وزراعية بل نهضة عامة لكافة القطاعات ألإنتاجية إذا اتخذت السياسات الاقتصادية الصحيحة، وهذا قد تحقق في الكثير من بلدان المنطقة كتركيا وايران، حيث كان نزول العملة بشكل كبير جداً في هذين البلدين خلال الثلاثة عقود الماضية، ولكن النهضة الصناعية في هذين البلدين كانت كبيرة جداً ليس بسبب هبوط العملة فحسب، بل بسبب اتخاذ سياسات اقتصادية مدروسة فضلاً عن قيام نهضة زراعية وسياحية في هذين البلدين، أما في العراق فإن نزول العملة قبل بضعة أشهر حين بلغ الدولار ما يقارب ال (1400) دينار كان بالدرجة الأولى من أجل فتح المجال لمجموعة من السياسيين للاغتناء على حساب معاناة الشعب ولذلك كان هناك سعرين للعملة بفرق كبير مع اعتماد القوائم المزورة كما أتضح هذا الأمر للقاصي والداني من خلال الإعلام.
لقد أتخذ عام 2006 قرار غير مدروس برفع قيمة الدينار ألعراقي من الف وخمسمائة دينار للدولار إلى أقل من الف ومئتي دينار للدولار الواحد، إن هذا القرار برفع قيمة الدينار العراقي بحدود الثلاثين بالمئة ترتب عليه تدمير الصناعة العراقية على مستوى القطاع العام والقطاع الخاص فضلاً عن تدهور القطاع الزراعي، حيث ترتب على هذا القرار زيادة كلفة البضائع المنتجة في العراق بحدود الثلاثين بالمئة مما يجعلها غير منافسة للبضائع المشابهة والمستوردة من خارج الحدود، فتوقفت على أثرها المعامل الحكومية فضلاً عن معامل القطاع الخاص بسبب عدم القدرة على تسويق المنتجات العراقية في السوق العراقي، لقد كان العراق في مصاف الدول الصناعية الكبرى في المنطقة كإيران وتركيا، والآن تدهورت الصناعة العراقية وأصبحنا نستورد الكثير من البضائع المصنعة من المصانع السعودية والإماراتية !!! ونفس الأمر حدث في القطاع الزراعي فبدأنا نستورد من دول الجوار لأن إنتاجها ألزراعي أصبح أرخص من إنتاجنا.
إن ارتفاع سعر الدينار عام ( 2006 ) كان له بعض الآثار ألإيجابية وبالذات رخص البضائع المستوردة، وما يحققه المسافر العراقي من فائض عند سفره خارج العراق، ومع هذه الآثار الإيجابية ولكن الخسائر بانهيار القطاع الصناعي وتوقفه وتراجع القطاع الزراعي واضطرارنا إلى الاقتراض تفوق بكثير تلك الآثار الإيجابية.
إن مبدأ تخفيض سعر تصريف العملة ينطلق من مبدأ وجوب الصرف من قبل الدولة بمقدار دخلها، فإذا كان صرفنا من أموال ليست أموالنا بل أموال مقترضة وبفوائد متراكمة فلا بد أن نقع في نهاية المطاف، وسيكون وقوعنا أشد بكثير من وقوع اليونان على سبيل المثال، فاليونان دولة بناها التحتية مكتملة من كهرباء وماء ومستشفيات ومدارس وسكن، في حين نحن نفتقر للكهرباء والماء الصافي وشبكات الصرف الصحي ولدينا ضعف كبير في النظام الصحي والتعليمي فنفتقر للمستشفيات والمدارس الصالحة ويسكن الكثير من الناس في بيوت التنك وفي العشوائيات، والكثير من الطرق والمرافق العامة مخربة، وسنستلم مدناً مخربة بعد القضاء على داعش وإخراجهم منها بمشيئة الله.
إن تخفيض العملة يمكن ان تترتب عليه آثار سلبية لا يمكن أن نغفل عنها، ولكن يجب أيضاً أن نتبنى جملة من الحلول لكي لا تترتب مثل هذه الآثار السلبية على المواطن وبالذات الطبقة الفقيرة، حيث إذا ما أتخذ قرار حكومي لتخفيض العملة لمرة واحدة وجعل الدولار الواحد يعادل (1500) دينار كما كان السعر حتى عام (2006) ، فيجب ابقاء سعر صرف تفضيلي لاستيراد المواد الضرورية كبعض المواد الغذائية الضرورية كالقمح والسكر والزيوت واللحوم والحليب وغيرها والأدوية والمستلزمات الطبية وكافة المواد والمستلزمات التي تعتبر ضرورية، والسعر التفضيلي هو سعر الصرف الحالي أي بحدود(1200) دينار للدولار.
وفي هذه الحالة لا يجوز تصريف العملة بالسعر التفضيلي اعتمادا على قوائم لا يعرف مدى صحتها ويمكن التلاعب بها كما هو الحال في الوقت الحالي، بل يتم اعتماد السعر التفضيلي في فتح الاعتمادات المصرفية فقط، وبهذه الطريقة يضمن عدم سرقة الأموال اعتمادا على الفرق بين أسعار التصريف.
كما يجب إعطاء السعر التفضيلي للمسافرين من أجل العلاج خارج البلد، إن سعر التصريف الجديد يجب أن يكون سعراً واحداً وثابتاً ولا يجوز أخذ عمولة عالية من قبل المصارف والصرافين.
إذا تم تخفيض سعر الصرف بهذا المستوى أي بمقدار حوالي ال 30% فإن ذلك يمكن أن يوفر فائضاً بحدود 25% للموازنة (الـ5% ستكون للمواد الغذائية والأدوية وسفر المرضى للعلاج)، فإذا كانت الموازنة بحدود ال (60) مليار دولار لهذا العام فإن الفائض سيكون بحدود ال (15) مليار دولار وهذا المبلغ أكثر ب(9) مليار دولار مما يسعى العراق للحصول عليه من قرض من مصارف عالمية اعتمادا على سندات الخزينة والبالغ (6) مليار دولار.
يجب استخدام هذا الفائض بشكل فعال في المشاريع المهمة للبلد من دون عمولات أو سرقات، ولكن مما يخشى منه بشكل كبير أن الأحزاب السياسية التي شكلت اللجان الاقتصادية للحصول على العمولات من خلال مشاريع وزاراتها ولكنها صدمت بسبب تقلص الميزانية نتيجة لانخفاض أسعار النفط ستفتح عيونها بشكل كبير للانقضاض على هذا الفائض، لذلك إن لم يتخذ الأخ الدكتور حيدر العبادي سياسة واضحة وحدية لإيقاف الفساد فإن هذه الزيادة في الأموال سترسو مرة أخرى في جيوب المفسدين.
محمد توفيق علاوي
اضف تعليق