يقول أحد شعارات اتحاد العمال الكتابيين والفنيين في جامعة هارفارد: "لا يمكننا أن نأكل هيبة". بعبارة أخرى، لا ينبغي للجامعة أن تستحل دفع أجور متدنية لمجرد أن العمل هناك يضفي على العامل قدرا من الهيبة.
ولكن على الرغم من أن الهيبة لا تغذي المرء بدنيا، فإنها تعينه وتدعمه. الواقع أن المنطق وراء الهيبة، وعلاقتها بالتكنولوجيا وهوية الناس، ربما يرتبط بشدة بصعود الشعبوية والمخاطر المرتبطة بالسياسات الشعبوية.
الهيبة شيء في جيناتنا. وفقا لعالِم الأنثروبولوجيا جوزيف هينريش، تطورت الهيبة لأننا كائنات ثقافية، بمعنى أن بقاءنا كأفراد يعتمد على اكتساب المعرفة الكامنة في الدماغ الجمعي. ونحن نكتسبها من خلال التقليد، لكننا يجب أن نقرر من يجب أن نقلده. وقد أظهرت دراسات علمية عديدة أننا نميل إلى تقليد الناس الذين يُعتَقَد أنهم يتمتعون بالهيبة والمكانة، وهو الحِس الذي تطور في مرحلة مبكرة للغاية من الطفولة.
يقترح هينريش أن هذه هي النتيجة الطبيعية للعبة التطور حيث تشكل الهيبة ثمنا للسخاء الذي يتقاسم به ذوو الهيبة معارفهم. ونحن نشترك مع أبناء عمومتنا من الرئيسيات في نزعة الذكر المهيمن، لكن الهيبة ــ وهي شكل من أشكال "الدفع" التي تسبق المال، والأجور، وخيارات الأسهم ــ طبيعة بشرية أساسية.
ورغم أن الهيبة حلت مشكلة كانت مرافقة لنا طوال تطورنا، فإنها تفاعلت قسرا مع التغيرات التكنولوجية على مدار نصف القرن الماضي. وبشكل خاص، كان صعود ما أسماه أهل الاقتصاد التغير الفني المنحاز للمهارات ــ اعتماد التكنولوجيات الحديثة على العمال من ذوي المهارات العالية ــ سببا في اتساع الفوارق في نمو الأجور بين مستويات المهارة المختلفة.
في كتابه الجديد بعنوان "مستقبل الرأسمالية" يزعم بول كوليير أن هذه الفجوة المتزايدة الاتساع في الأجور عملت على تغيير إدراك الذات بين ذوي المهارات العالية: حيث اكتسبت هويتهم المهنية أهمية أكبر من شعورهم بأنفسهم كأعضاء في الأمة بشكل أساسي. وباستخدام نموذج للسلوك البشري اقترحه جورج أكيرلوف وراشيل كرانتون، يزعم كوليير على نحو مقنع أن الشعور بالرضا الذي تضفيه هوية نسبة إلى أخرى ــ ولنقل المهنة في مقابل الأمة ــ يعتمد على التقدير الذي ينظر إليه آخرون إلى تلك الهوية.
مع نمو الفوارق في الأجور، وتحويل الأفراد من ذوي المهارة العالية تركيز هويتهم من القومية إلى المهنة، تناقصت قيمة الحفاظ على الهوية الوطنية بين كل الآخرين. ووقع أصحاب المهارات المتدنية في فخ هوية وطنية أقل قيمة.
تفسر هذه الديناميكية، وفقا لرأي كوليير، التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا وصعود القومية اليمينية في دول أخرى غنية: فهي تتركز بين السكان الأقل مهارة في البيئات الأكثر ريفية والأقل تنوعا من حيث العِرقية حيث لا تزال الهوية الوطنية التقليدية مهيمنة. وهي تفسر أيضا انحدار الثقة في النخب: فلأن أعضاء النخبة يرتبطون في المقام الأول بهويتهم المهنية الأكثر عالمية، فإنهم يُعَدون أقل اهتماما بالتزاماتهم المتبادلة مع بقية الأمة. والواقع أن تفويض الخيارات للخبراء أمر عفا عليه الزمن لأن الخبراء لم يعد لديهم اهتمام ببقيتنا.
قد يؤدي التفاوت المتزايد في الأجور إلى تدمير التوازن الذي يقترحه هينريش. فإذا كان صاحب الهيبة يتقاضى أجرا جيدا للغاية بالفعل، ولا يُنظَر إليه على أنه سخي بمعرفته، فقد تنهار هيبته. وربما يكون هذا مثالا آخر لعدم التوافق بين الإنسان الاقتصادي والأخلاق المجتمعية التي أكد عليها صموئيل باولز في كتابه "الاقتصاد الأخلاقي": فالسلوك المهتم بالذات القائم على المعاملات والذي يحدد هيئة السوق ليس مقبولا في الأسرة أو المجتمع.
وقد يؤدي انهيار توازن الهيبة إلى إلحاق ضرر بليغ بالمجتمع، لأنه ربما يكسر العقد الضمني الذي بموجبه يستخدم المجتمع المهارات الحرجة. ولكي نرى كيف ولماذا، فما علينا إلا أن نتأمل في ما حدث في فنزويلا.
في عام 2002، استهدفت الخطابة الشعبوية اليسارية على لسان الرئيس هوجو شافيز آنذاك شركة النفط الوطنية PDVSA. كانت الشركة مملوكة للدولة بالفعل، ولهذا لم يكن التأميم واردا. من منظور شافيز، كانت المشكلة هي ثقافة الجدارة السائدة في شركة PDVSA: فلم تكن العلاقات السياسية القوية ذات قيمة لضمان النجاح في الشركة. بل كانت القيمة الأعظم من منظور الشركة هي المعرفة اللازمة لإدارة منظمة معقدة.
كانت الحواجز الاجتماعية التي تحول دون الدخول إلى شركة PDVSA منخفضة، لأن التعليم الجامعي كان مجانيا في فنزويلا منذ خمسين عاما، هذا فضلا عن عقود من الزمن من المنح الدراسية السخية للدراسة في الخارج، وخاصة في المجالات المرتبطة بالنفط. ولكن بمجرد الدخول، كان التقدم يعتمد على الجدارة. وقد نشأت ثقافة مماثلة في قطاع الطاقة، والبنك المركزي، والجامعات، وغير ذلك من الكيانات التي شكلت أهمية بالغة في تعزيز قدرة الدولة.
الواقع أن الثورة الشعبوية سوت بين المعرفة والامتياز ثم ألقت بها من النافذة. فعندما تعرضت ثقافة الجدارة للتهديد، دخلت الشركة في إضراب، وجرى فصل أكثر من 18 ألف عامل ــ أكثر من 40% من قوة العمل في الشركة وما يقرب من كل إدارتها العليا. ونتيجة لهذا، حدث انهيار مذهل في أداء صناعة النفط، وفي نهاية المطاف في كل المؤسسات الأخرى التي تضررت بفِعل الحرب على الخبرة، الأمر الذي أدى إلى الكارثة التي أصبحت فنزويلا تعيشها اليوم.
والدرس واضح، فنظرا لمتطلبات التكنولوجيا اليوم، يُعَد رفض الخبرة كامتياز تصرفا بالغ الخطورة. ولكن لأن اكتساب الخبرة يستغرق الوقت والجهد، فإن الوصول إليها ليس متاحا بالمجان "للناس". والوسيلة الوحيدة للحفاظ عليها هي من خلال سوق الهيبة الضمنية: فمن المفترض أن يكون الخبراء أسخياء بمعرفتهم ومخلصين للأمة. و"يكافئهم" المجتمع بمنحهم مكانة اجتماعية تجعل وضعهم مرغوبا، حتى وإن كانت فوارق الأجور مضغوطة، كما هي الحال غالبا في القطاع العام (وكما كانت الحال في فنزويلا في وقت الهجمات المميتة على الخبرة).
لابد أن يكون البديل للشعبوية ترتيب يبرهن الخبراء بموجبه على حماستهم العامة الصادقة في مقابل تقدير واحترام المجتمع، كما يحدث غالبا مع القادة العسكريين، والأكاديميين، والأطباء. الحق أن سوق الهيبة القائمة بوظيفتها بشكل جيد تشكل ضرورة أساسية للتوفيق بين التقدم التكنولوجي وصيانة نظام حكم موفور الصحة.
اضف تعليق