نظرًا إلى تاريخها وموقعها الغني، ينبغي أن تكون مدينة البصرة العراقية مدينة مزدهرة اليوم. إنها عاصمة لأكثر من مليوني نسمة، وموطن الميناء الوحيد في العراق والبوابة الرئيسية لإيران. كما أنها عاصمة المقاطعة التي تحمل اسمها، والتي توفر أكثر من 200 مليار برميل نفط من الاحتياطيات المقدرة، والتي تمثل 80% من ثروات العراق النفطية، بحسب تقرير نشرته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية.
واوضح التقرير ،إن قنوات المياه العذبة في المدينة، أو ما تبقى منها، أصبحت الآن مليئة بالقمامة، وتخرج منها روائح كريهة. وعلى الرغم من أن شركات الطاقة متعددة الجنسيات احتشدت هنا منذ عقود، إلا أن معدلات البطالة تزداد في المدينة.
وبين، أنها لم تتأثر بالحرب الوحشية التي دامت أربع سنوات ضد تنظيم داعش، إلا أن البصرة هي المكان الذي تبدو فيه ندوب مشاكل العراق أكثر وضوحًا: الضعف الدائم للدولة، والفصائل والقبائل التي تعمل بموجب قوانينها الخاصة، والفساد المتجذر الذي يغذيه جشع النفط، و-الآن- تجارة المخدرات المزدهرة.
وقال التقرير، إنه ومع بلوغ استياء العراقيين من الحكومة أعلى مستوياته على الإطلاق، فإن أماكن مثل البصرة ستختبر ما إذا كان بإمكان العراق العودة إلى المسرح العالمي بوصفها دولة عاملة، أو العودة إلى المزيج السام من الطائفية والفساد الذي حفز صعود الارهاب في المقام الأول.
ثمة وقت كانت فيه البصرة تعتبر واحدة من أهم المراكز في المنطقة. أسست مدينة البصرة في عام 636 ميلاديًّا على طول الممر المائي الذي يبلغ 120 ميلًا، وانتهت بالانضمام إلى نهري دجلة والفرات، وأصبحت محطة أساسية للمسافرين العالميين، مثل العالم ابن بطوطة في القرن الرابع عشر.
الماضي أفضل من الحاضر
ونقل التقرير عن جبار الصعيدي، رئيس مجلس أمن المدينة، قوله: "ماضي البصرة أفضل من حاضرها بالنسبة إلى جميع أولئك الذين زاروا البصرة في السبعينيات، حتى في الثمانينيات، قبل الحرب العراقية الإيرانية، فقد كانت مكانًا جميلًا".
وفي الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق عام 2003، ومع إدراكهم لقيمتها الاستراتيجية، فقد كانت البصرة أول مدينة تغزوها القوات الأمريكية والبريطانية، في وقت لاحق، كانت المدينة مركزًا رئيسيًّا في عهد ما بعد صدام حسين.
ونقلت القوات البريطانية، السيطرة إلى السلطات العراقية في عام 2007، وفق ما ذكر تقرير الصحيفة البريطانية، مع استعادة النظام، تم تجديد شباب البصرة. جاءت شركات النفط بأعداد كبيرة. كانت مشاريع العمارة المتألقة، بما في ذلك ناطحة سحاب مقترحة تتألف من 230 طابقًا (كان من المفترض أن تكون أطول ناطحة سحاب في العالم) تسمى "العروس"، لمساعدة البصرة على تجاوز مدن أخرى محلية مثل دبي.
لكن هذا كله انتهى في عام 2014، عندما أطلق تنظيم داعش حربه الخاطفة في المناطق الشمالية للعراق. وعلى الرغم من أن المتشددين لم يصلوا إلى البصرة أبدًا، إلا أن تأثيرهم كان سريعًا.
ونقل التقرير عن الصحافي بن لاندو، رئيس تحرير دورية النفط العراقي قوله: "كانت هناك حاجة إلى توجه القوات إلى الشمال للتعامل مع داعش… ورأيت تحولًا في المؤسسة الأمنية بالبصرة".
ومع عدم وجود رقابة مشددة على البصرة، عادت الميليشيات إلى الظهور، مما أطلق موجة من عمليات الخطف والسرقة والاتجار بالمخدرات.
القبائل المتناحرة
انضمت القبائل المتناحرة في المقاطعة باستمرار إلى النزاع. لقد شاركوا في تهريب النفط خلال أيام صدام. وعلى الرغم من أن التهريب كان أقل، إلا أن رجال القبائل في كثير من الأحيان كانوا يعملون بشركات النفط لحماية (أو بعبارة أخرى، الامتناع عن تفجير) خطوط الأنابيب التي تمر عبر المناطق التي يعتبرونها خاصة بهم.
الآن، رجال القبائل، الذين غالبًا ما يكونون مدججين بالسلاح، يقاتلون بعضهم البعض، كما يقول يعروب محمودية، رئيس لجنة حل النزاعات القبلية في البصرة، للحصول على المبالغ الخيالية التي تدفعها شركات النفط للتنقيب في منطقة ما.
في هذه الأثناء، كانت مطالب الحرب ضد تنظيم داعش، إلى جانب الانكماش في أسعار النفط، تعني أن البصرة، التي تنتج حقولها النفطية نحو 3.7 مليون برميل في اليوم، لا تحصل على المال من الحكومة الفيدرالية التي تعاني من ضائقة مالية.
ونقل التقرير عن علي شداد، رئيس لجنة النفط والغاز في مجلس المحافظة، قوله: "كان من المفترض أن نحصل على خمسة دولارات لكل برميل نفط خام، وخمسة دولارات لكل برميل من النفط المكرر، وخمسة دولارات لكل 150 مترًا مكعبًا من الغاز. من المفترض أيضًا أن نحصل على نصف رسوم الحدود من المواني والمعابر البرية، منذ منتصف عام 2015، لم نتلق أي أموال من دولاراتنا البترولية. ترفض الحكومة أن تدفع، وتقول لنا إنه ليس لديها المال الكافي".
وقال شداد إن المحافظة غالبًا ما تكون غير قادرة على دفع رواتب موظفيها، وقد تم تأجيل حوالي 700 مشروع، بما في ذلك بناء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية. وأضاف: "تم منح معظم هذه العقود لشركات محلية، لذا فقد تأثر حتى قطاعنا الخاص".
ومع تركيز الحكومة على تطوير النفط والغاز، فإن الأراضي الزراعية الشهيرة في الإقليم قد دُمِّرت. لقد تحولت الكثير من المياه في البصرة إلى الملوحة، نتيجة سنوات من سوء إدارة المياه -الاستخدام المفرط للحفريات والتنقيب والجرف- الذي سمح للمياه المالحة من الخليج العربي بغزو شط العرب.
"ما الذي جنيناه من امتلاك هذا النفط والميناء؟ هل يمكنك أن تغسل بالماء العذب هنا؟… تم تدمير كل مياهنا النهرية. اذهب إلى شط العرب. لا يوجد سمكة هناك"، هكذا قالت أم عمار، وهي بائعة عمرها 32 عامًا في متجر لبيع الملابس في سوق عشار.
تحدثت أم عمار أيضًا عن القمامة التي تظل ملقاة في الشوارع أيامًا، والطرقات التي لا تزال غير ممهدة، كما اشتكت أم عمار من انقطاع الكهرباء المستمر في المدينة.
وأضافت، "هل ترى؟ الصيف قادم والقيظ يكون شديدًا هنا". فمن المعتاد أن تصل درجات الحرارة في الصيف إلى 122 درجة.
وعلى الرغم من هذه العوائق، تدفق حوالي 40 ألف عراقي من محافظات أخرى على المدينة في السنوات الأخيرة. إنهم ينضمون إلى مئات الآلاف من البصريين في بحث يائس عن العمل في قطاع النفط، الذي على الرغم من أنه يمثل 65٪ من الناتج المحلي الإجمالي للعراق، يوظف 1٪ فقط من القوة العاملة في البلاد، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة.
تجارة المخدرات
ويعمل عدد قليل من السكان في مجال التعليم، أو التدريب الفعلي. وكثيرًا ما يضطر الذين كانوا أكثر حظًّا إلى دفع رشاوى للحصول على وظائف عمال نظافة أو سائقين.
ومع ذلك، فإن معظمهم عاطلون عن العمل، ويعيشون في أحياء مدمرة، أو في أكواخ صغيرة لا يملكون إلا القليل للقيام به. إنهم فريسة سهلة لأحدث تهديد للبصرة: الميثامفيتامين. إنها تجارة كبيرة، يمكن بيع جرام من الميثامفيتامين بسعر 70 دولارًا تقريبًا هنا.
في الماضي، كانت البصرة ممرًا للدواء، وكان يُنقل من إيران إلى دول الخليج العربي مثل المملكة العربية السعودية. أما الآن فيبقى الكثير من المخدرات في البصرة.
ونقل التقرير عن أشخاص تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم بشأن مخاوف تتعلق بالسلامة، قولهم إن تجارة المخدرات يشارك فيها مسؤولون بارزون متواطئون مع عصابات المخدرات.
والأسوأ من ذلك، كما يقول يعروب محمودية، فقد أصبحت الآن البصرة مصدّرًا لها. وأضاف محمودية: "لديك مصانع هنا تنتج هذا العقار".
ألقت تجارة المخدرات بآثارها المدمرة على المدينة، إذ يوجد ما لا يقل عن 1700 رجل في السجن بتهم تتعلق بالمخدرات، مما أدى إلى إغراق نظام السجون غير المجهز للتعامل مع المدمنين.
وأصر محمودية ومسؤولون آخرون تمت مقابلتهم على أن هناك حاجةً إلى مراكز إعادة تأهيل. حتى أن محمودية طلب من شركات النفط تمويل واحدة من هذه العيادات، ولا يزال في انتظار الرد.
وعلى الرغم من أن الحكومة شنت غارات في فبراير (شباط) الماضي للقضاء على الجريمة، إلا أن السكان، بمن فيهم أم عمار، رفضوا هذه الخطوة، واعتبروا أنها لا تمثل أكثر من مجرد مواقف تسبق الانتخابات البرلمانية.انتهى/س
اضف تعليق