تهدئة وتقارب مفاجئان تشهدهما منطقة الشرق الأوسط بين أطراف ظلت متخاصمة بشدة طوال السنوات الماضية، فيما وصفه بموجة من الدبلوماسية الرامية لتهدئة صراعات الشرق الأوسط، فما الذي دفع هذه الدول لهذا المسار الدبلوماسي، وما فرص نجاحه؟
فلقد وصل طحنون بن زايد، مستشار الأمن القومي لدولة الإمارات المتحدة، إلى أنقرة للقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 18 أغسطس/آب، في خطوة مفاجئة بالنظر إلى أنَّ الدولتين على خلاف منذ سنوات بسبب دعم أردوغان للجماعات الإسلامية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
وسبق أن اتهم مسؤولون أتراك دولة الإمارات بالتحريض على محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. ومع ذلك، لم يرد ذكر أي من تلك الخلافات في البيان الرسمي الصادر بعد لقائهما، حيث تحدث البيان بدلاً من ذلك عن التعاون الاقتصادي.
يقول ديفيد هيرست في مقال نُشر بموقع Middle East Eye البريطاني عن التقارب الأخير بين الإمارات وتركيا: توجد سرية كبيرة في أنقرة، لكنْ هناك شيء واحد واضح: الزخم لعملية إعادة الضبط هذه آتٍ من أبوظبي، وأردوغان حذر، ومؤسسة السياسة الخارجية التركية متشككة، ولدى كليهما سبب وجيه لتوخي الحذر.
وبعد أسبوع من ذلك الاجتماع بين الرئيس التركي وطحنون بن زايد، التقى طحنون بأمير قطر، ليصبح أكبر مسؤول إماراتي يزور قطر منذ أن فرضت دولة الإمارات وثلاث دول عربية أخرى حظراً عليها في عام 2017. كانت هناك أيضاً لغة مشجعة بشأن التعاون بين البلدين. تشير زيارة الشيخ طحنون لأنقرة والدوحة إلى تحوّل في مسار السياسة الخارجية لدولة الإمارات.
كما عقد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وأمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، ومستشار الأمن الوطني الإماراتي، طحنون بن زايد آل نهيان، لقاء ودياً.
ونشر مدير المكتب الخاص لولي العهد السعودي، بدر العساكر، عبر "تويتر" صورة جمعت بن سلمان والشيخ تميم وآل نهيان وهم يرتدون ملابس غير رسمية.
3 محاور تُشعل صراعات الشرق الأوسط
ثمة اثنان من خطوط الصدع الرئيسية في الشرق الأوسط في الوقت الحالي، أحدهما يضع دول الخليج وإسرائيل في مواجهة إيران وحلفائها، والآخر بين دول متعاطفة مع جماعة الاخوان مثل تركيا وقطر في مقابل مصر والإمارات المناهضتين تماماً لتلك الجماعة وإلى حد ما السعودية معهما.
يؤدي هذا إلى وجود ثلاثة محاور في المنطقة تتقاتل في مناطق عدة ونادراً ما يتحالف اثنان منها ضد الثالث: المحور الإيراني، المحور التركي القطري المؤيد للاخوان، والمحور الإماراتي السعودي، المصري الداعم للثورات المضادة.
يتواجه المحور الإيراني التركي في سوريا بينما تتقارب مواقفهما في رفض استقلال كردستان العراق، والقضية الفلسطينية، بينما تختلف نسبياً دون صراع في اليمن، المحور التركي القطري يتواجه مع المحور الإماراتي المصري خاصة في ليبيا وسوريا بشكل أقل، وكذلك في تونس.
بينما المحور الإيراني يتواجه مع السعودية تحديداً في اليمن، وبصورة أقل في العراق، ولبنان، دون دعم يُذكر من الإمارات وبالأكثر مصر التي تحاول جذب السعوديين والإماراتيين لصراعاتها مع الإخوان المسلمين، دون أن تتورط في صراعات السعودية مع المحور الشيعي.
ومع ذلك، لا تعد الإمارات الدولة الوحيدة التي تغير مسار سياستها الخارجية.
شرع الخصوم القدامى بمنطقة الشرق الأوسط في إعادة فتح طريق الدبلوماسية خلال الأشهر الخمسة الماضية. بدأت السعودية وإيران حواراً في شهر أبريل/نيسان الماضي وسعت تركيا إلى إصلاح علاقاتها مع مصر، التي توترت بعد إطاحة الجيش المصري بحكومة الرئيس المنتخب محمد مرسي في عام 2013.
عادت قطر ومصر، اللتان اختلفتا لنفس السبب، إلى الحديث معاً من جديد، حتى أنَّ مصر سمحت لقناة "الجزيرة" القطرية بإعادة فتح مكتبها في القاهرة، الذي كان قد أُغلق بعد الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين عام 2013.
وصلت هذه التحركات الجديدة إلى ذروتها بعقد قمة إقليمية دولية في العاصمة، بغداد، في 28 أغسطس/آب جمعت مسؤولين من مصر وإيران وقطر والمملكة العربية السعودية وتركيا ودول أخرى. على الرغم من انتهاء هذه القمة بدون التوصل إلى اتفاقيات ملموسة، كان حديث المشاركين في حد ذاته مع بعضهم البعض يُمثّل تطوراً وانفراجة، إذ كان العديد منهم مترددين في حضور مثل هذا التجمع حتى وقتٍ قريب.
يأمل المتفائلون أنَّ تكون هذه الاجتماعات مؤشراً على ذوبان الجليد والوصول إلى نهاية محتملة للنزاعات المدمرة في المنطقة. وعلى الرغم من أنَّ منطقة الشرق الأوسط باتت مكاناً قاسياً للمتفائلين، قد تكون جزءاً من آمالهم في محلها في هذه الحالة.
استقر الخلاف السعودي الإيراني، الذي أعاد تشكيل المنطقة بعد عام 1979، عند مرحلة الصراع المجمّد على مدى السنوات الأربع الماضية. يعود ذلك جزئياً إلى نجاح إيران وفشل السعودية في ممارسة النفوذ في الخارج. ارتكب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، سلسلة من الأخطاء الفادحة فيما يتعلّق بالسياسة الخارجية السعودية خلال أيامه الأولى في السلطة، لكنه أعاد توجيه تركيزه إلى تنويع اقتصاد المملكة بعيداً عن الاعتماد على النفط.
يشير دبلوماسي إماراتي إلى أنَّ هذه الفرصة الجديدة للدبلوماسية جاءت نتيجة جائحة فيروس كورونا المستجد، قائلاً: "لقد جعلتنا جائحة كورونا ندرك ضرورة العودة إلى بحث قضايانا الداخلية والتخلي عن أنواع معينة من الارتباطات في الشرق الأوسط الكبير".
قد يبدو هذا الطرح المتأني تبريراً بأثر رجعي، إذ بدأت الإمارات في سحب قواتها من اليمن في عام 2019، أي قبل أشهر من تفشي الوباء. فشلت الإمارات في تحقيق أي أهداف استراتيجية من تورطها في مستنقع الحرب في ليبيا، وهذا إلى حد كبير بسبب التدخل التركي الذي دعم حكومة الوفاق المعترف بها دولياً أمام أمير الحرب الليبي خليفة حفتر.
لم تجنِ الإمارات من سياستها الخارجية المتدخلة سوى القليل من المكاسب. لذا، كان من الأفضل لها التركيز على اقتصاد لا يزال غير مستعد بعد لتحول يلوح في الأفق بعيداً عن قطاع النفط، رغم أنه أكثر تنوعاً من جيرانه.
ينشغل المسؤولون الإماراتيون بالفعل بالإعلان عن مجموعة من المبادرات الاقتصادية قبيل الذكرى الـ50 لتأسيس دولة الإمارات في ديسمبر/كانون الأول المقبل.
خلال عام 2020، دخلت تركيا في نحو أربع مواجهات مباشرة وغير مباشرة، في ليبيا ضد حفتر المدعوم من مصر والإمارات وفرنسا وروسيا، في إدلب بسوريا ضد الجيش السوري المدعوم من روسيا، وضد الأكراد في شمال شرق سوريا المدعومين من الغرب وحرب القوقاز حيث دعمت أذربيجان التي خرجت منتصرة من الحرب ضد أرمينيا المدعومة من موسكو.
في الحروب الأربع كانت الطائرات المسيرة التي تصنعها تركيا أداة فعالة ورخيصة وتكلفتها البشرية قليلة بالنسبة لأنقرة واضطرت الخصوم للتفاوض، وفي الحالة اليونانية لم يصل الأمر إلى الحرب، ولكن تركيا ردت على الاتفاق اليوناني المصري لترسيم الحدود والذي خالف تفاهماً للتهدئة بين أنقرة وأثينا بوساطة ألمانية بمظاهرة عسكرية في المناطق المتنازع عليها.
بالنسبة لتركيا لم هذه المعارك وسيلة للتصعيد، بل لضمان مراعاة مصالحها ومصالح حلفائها، ويبدو أن الرسالة قد وصلت من موسكو إلى أبوظبي مروراً بواشنطن وبرلين وباريس.
ولكن التوتر الناجم عن الأزمات ثم جائحة كورونا كان له آثار اقتصادية، فرغم أن الاقتصاد التركي هو صاحب ثاني أعلى معدل نمو في مجموعة العشرين بعد الصين خلال عام 2020، ولكن الليرة تعاني من ضغوط، وهناك ارتفاع في معدلات التضخم وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
تركيا كانت تتعافى من أزمة العملة، ولكنها عادت مجدداً جراء الجائحة التي أثرت على السياحة، ناهيك عن خلافاتها مع أمريكا والاتحاد الأوروبي واليونان.
وقبل جائحة كورونا، شهدت الاحتياطات التركية من العملات الأجنبية والذهب زيادة كبيرة، وكانت تركيا تراهن عقب خروجها من أزمة عام 2018، على قدرتها على الاستفادة من تراجع الليرة لزيادة الصادرات وتعزيز السياحة لتحقيق فائض في ميزان المدفوعات والحساب الجاري، مع الحفاظ على سياسة خفض الفائدة التي أدت إلى تحقيق نمو اقتصادي جيد، وبالتالي يصبح الدولار الداخل للبلاد أكثر من الذي يخرج منها بعيداً عن الأموال الساخنة. ولكن جائحة كورونا جاءت لتفسد هذا التوازن، خاصة فيما يتعلق بتراجع قطاع السياحة.
ويبدو أن تركيا بعد أن حققت نجاحات سياسية وعسكرية وأنقذت حلفائها في أذربيجان وسوريا وليبيا وضمنت لهم مقعداً على طاولة المفاوضات تريد التهدئة الآن لجني المكاسب عبر المفاوضات وليس الأدوات الخشنة.
يقول غاليب دالاي من مركز أبحاث "تشاتام هاوس" في لندن: "يحتاج إنعاش الاقتصاد التركي إلى وقف التصعيد، بالإضافة إلى الأموال. قد يقدم المستثمرون الإماراتيون بعضاً من هذه الأموال اللازمة لتعافي الاقتصاد التركي".
لا حل في شرق المتوسط دون توافق مصري – تركي
تأمل تركيا أيضاً في الاستفادة من تحسين العلاقات مع مصر. بلغ حجم التجارة بين البلدين العام الماضي قرابة 5 مليارات دولار على الرغم من سنوات الجفاء والقطيعة. يقول مسؤولون أتراك إنَّ إمكانات التعاون الاقتصادي أعلى من ذلك بكثير.
ستجني تركيا أيضاً مكاسب سياسية من إصلاح العلاقات مع مصر. انحازت مصر، مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا وإسرائيل، إلى صف اليونان وقبرص في النزاع مع تركيا بشأن حقوق التنقيب في شرق البحر المتوسط.
تعتقد حكومة أردوغان أنَّ التوصل إلى اتفاق مع مصر قد يساعدها في تفكيك الموقف في شرق المتوسط، خاصة أنها تقول إن ما تعرضه على مصر فيما يتعلق بترسيم الحدود أفضل مما تعرضه اليونان، كما أن القاهرة تعلم أنه يصعب الاستفادة من مصادر الطاقة بشرق المتوسط دون موافقة أنقرة.
سيمثَّل نجاح أنقرة في استعادة علاقاتها الطبيعية مع القاهرة منعطفاً كبيراً، لاسيما أنَّه لم يعد هناك أي جماعات إسلامية في مصر لتدعمها تركيا أو على الأقل أصبحت ضعيفة ومهمشة.
فكَّك الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، جماعة الإخوان المسلمين والجماعات التي على شاكلتها وانقض على أعضائهم وأنشطتهم بلا رحمة.
في المقابل، يصعب حل الخلافات مع إيران. لن يتفاوض النظام في طهران على نفوذه الذي كسبه بشق الأنفس في العالم العربي. بدلاً من ذلك، قد يقتصر سعى الدول الخليجية على تأمين ساحتها الخلفية، لأنَّها أصبحت مدركة تماماً لحجم الخطر المحدق بها بعد أن أدت سياسة "الضغط الأقصى" التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى دفع إيران إلى تنفيذ عمليات تخريب لناقلات النفط وتزويد مسلحين بطائرات بدون طيار وصواريخ لتوجيه ضربة مفاجئة ضد منشآت النفط السعودية في عام 2019.
وستكون التداعيات مدمّرة إذا اتسع نطاق الصراع وزادت حدته. يخشى مسؤولون، على سبيل المثال، من أنّه في حال إطلاق صاروخ موجّه بشكل جيد يستهدف محطات تحلية المياه، قد تصبح حينها منطقة الخليج غير صالحة للعيش في غضون أيام. وبناءً عليه، تنخرط كل دولة في هذه المحادثات بطريقتها الخاصة ومن موقف قوة وضعف بدرجةٍ ما. بينما تمتلك دول الخليج الأموال الطائلة، لكنها هشة. على الجانب الآخر، تملك إيران وتركيا القوة العسكرية لكنهما يعانيان من وضع مالي حرج.
انتهت مؤتمر بغداد بإصدار بيان مشترك تعهدت فيه الدول المشاركة بـ"عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى". ومع ذلك، من غير المرجح أن تتوقف الدول المشهورة بسياساتها الخارجية التدخلية عن تبني هذا النهج. ومن ثمَّ، لا تبعث هذه الدبلوماسية الإقليمية بالكثير من الراحة والطمأنينة لمواطني دول مثل لبنان والعراق، التي بالكاد تبدو دولاً ذات سيادة.
المصدر: عربي بيست
اضف تعليق