من الحقائق التي لا يمكن إنكارها أن البشرية لم تكن يوماً على هذا القدر من الترابط. تريد التواصل مع أحدهم؟ العقبة الأساس هي فقط اختيار الوسيلة من بين هذا الكم الهائل من أدوات الاتصال المتاحة، فهل ستستخدم "إنستغرام" أو "إكس" أو "تيك توك"؟ أم رسالة نصية؟ أم تكتب رسالة على "فيسبوك مسنجر" أو "واتساب" أو "فيس تايم" أو ترسل بريداً إلكترونياً أو تتواصل عبر "سناب شات" أو "ميكروسوفت تيمز" أو "غوغل ميت" أو "سلاك"؟ وإن أردت أن تستخدم الوسائل التقليدية الحقيقية، فيمكنك أن تتصل بالشخص هاتفياً (يا للهول). خيارات كثيرة يصعب الحسم بينها.
ومع ذلك، على رغم أن التواصل مع أي شخص التقيته في حياتك متاح بصورة أسرع من غلي الماء، يبدو أن الصداقات في انحسار.
تتزايد الأدلة على أن الصداقات العذرية تمر بحقبة صعبة. وفقاً لمسح آراء الأميركيين الذي أجراه عام 2021 "مركز استطلاعات الحياة الأميركية"، وهو منظمة غير ربحية، فقد أفاد الأميركيون بأنهم باتوا يملكون عدداً أقل من الأصدقاء المقربين، ويجرون محادثات أقل مع أصدقائهم، ويعتمدون عليهم بصورة أقل للحصول على الدعم الشخصي. وأظهر الاستطلاع أن الدوائر الاجتماعية تنكمش، إذ تراجعت نسبة الرجال الذين قالوا إن لديهم ستة أصدقاء مقربين في الأقل من 55 في المئة عام 1990 إلى 27 في المئة فقط عام 2021. أما النساء، فعلى رغم أن التراجع كان أقل حدة، فإن نسبة من لديهن ستة أصدقاء جيدين أو أكثر انخفضت من 41 إلى 24 في المئة. ويظهر الاستطلاع أن نحو نصف الأميركيين (49 في المئة) لديهم ثلاثة أصدقاء أو أقل، فيما قال 12 في المئة إنهم "لا يملكون أصدقاء مقربين على الإطلاق".
ويبدو أن هذا الاتجاه استمر بعد الجائحة. فقد أظهر تقرير جديد صادر عن وكالة الإعلانات "موديرن سيتزنز" Modern Citizens أن أكثر من واحد من كل خمسة (22 في المئة) من البريطانيين يقول إن دائرته الاجتماعية انكمشت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فيما قال نحو نصف المشاركين (47 في المئة) إنهم لا يخالطون العائلة والأصدقاء سوى مرة واحدة أو أقل في الشهر.
وتزداد الصورة قتامة بين فئة الشباب. فالبالغون الذين تراوح أعمارهم ما بين 16 و29 سنة هم الأكثر عرضة للشعور بالوحدة "دائماً أو في كثير من الأحيان"، بحسب بحث أجرته حملة "إنهاء الوحدة". ويتماشى هذا مع بيانات مشروع "الصداقات الكبرى"، وهو منظمة غير ربحية أنشئت عام 2021 لمعالجة الوحدة بين البالغين الشباب، إذ أظهرت أن نسبة من تقل أعمارهم عن 35 سنة والذين قالوا إن لديهم صديقاً مقرباً واحداً فقط أو لا أحد، قد تضاعفت أكثر من ثلاث مرات خلال العقد الأخير، من سبعة إلى 22 في المئة.
فما الذي يقف وراء "ركود الصداقات" هذا؟ يشير مركز استطلاعات الحياة الأميركية إلى أن جائحة كورونا هي "المتهم الأوضح" في التراجع الوطني في الصداقات. وتوافق الكاتبة الصحافية آنا غولدفارب، مؤلفة كتاب الصداقة الحديثة، وصاحبة النشرة الدورية عن الصداقة على منصة "سابستاك"، على أن الجائحة "أضعفت، بالتأكيد، لدى بعض طاقتهم الاجتماعية إذ فقدوا عادة تنظيم حياتهم حول الصداقات والأنشطة الاجتماعية".
لكن التقرير أشار كذلك إلى وجود "قوى هيكلية أوسع" ربما تؤثر في الوضع بصورة أكبر. ومن بينها "الحركة الجغرافية الأنشط" للسكان -أي زيادة تنقلهم من مكان إلى آخر- وتضاعف وقت يخصصه الأبوان لأطفالهما مقارنة بالأجيال السابقة، وثقافة العمل التي يخصص فيها الموظفون ساعات أطول لوظائفهم، إضافة إلى زيادة عدد الرحلات التي يقومون بها في إطار العمل.
وتوافق آيرين أس لفين، المتخصصة النفسية وصاحبة مدونة الصداقة الإلكترونية ومؤلفة كتاب "أفضل الأصدقاء للأبد: تخطي الانفصال عن الأصدقاء المقربين"، أن الصداقات تأثرت بزيادة الانتقال الجغرافي. وتقول "كان من الشائع أكثر في الماضي أن يلازم الناس أماكنهم. لكن الشباب أكثر عرضة للتنقل مرات عدة من أجل الارتباط ومتابعة الدراسة وتأسيس مهنة والزواج أو الطلاق أو تجربة العيش في مكان مختلف أو في ثقافة أخرى. وقد يغير عدد كبير من هذه التنقلات الصداقات أو يحدث فيها اضطراباً".
وهذا يعني أيضاً أننا نلتقي الآن عدداً أكبر بكثير من الأشخاص. وقد يبدو ذلك مدخلاً لتكوين عدد أكبر من الصداقات، بيد أنه قد يأتي بالأثر المعاكس، وفقاً لغولدفارب. وتقول "قد تعتقد أن زيادة الروابط تجعل الأمر أسهل، لكنها في الواقع أرهقتنا. ومن المربك جداً أن تكون لديك هذه الكوكبة من العلاقات –من الطفولة، والمدارس المختلفة، والوظائف المتعددة– لأننا ببساطة نقابل أناساً أكثر بكثير مما كانت تفعل الأجيال السابقة".
ومن ناحية أخرى، تأثرت علاقاتنا بزيادة استقلاليتنا بفضل التكنولوجيا. في الماضي، كان لديك أسباب عملية للتواصل مع الأصدقاء والجيران والاعتماد عليهم، فقد تحتاج إلى المساعدة في الانتقال من منزل إلى آخر، أو طلب كوب من السكر من جيرانك، إما فعلياً أو لرغبتك في التواصل فحسب. "لكننا أوكلنا معظم هذه المهام إلى جهة ثالثة الآن"، كما تقول غولدفارب. "فما عليك سوى طلب سيارة الأجرة ’أوبر‘. أو طلب السكر من ’أمازون‘. لست في حاجة إلى الاعتماد على محيطك لتأمين حاجاتك". صحيح أن التواصل مع مختلف الأشخاص في حياتنا أصبح أسهل- "لكن ما عدنا نمتلك سبباً لهذا التواصل بالضرورة".
ويتفاقم الأمر بسبب وتيرة الحياة الحديثة المزدحمة. فالكبار "غالباً ما يقومون بعدة مهام خلال الوقت نفسه"، تقول ليفين. "التوفيق بين العمل ورعاية الأطفال أو الآباء المسنين يترك وقتاً أقل للعلاقات الاجتماعية. وغالباً ما ينظر إلى تخصيص وقت للصداقة على أنه ترف أو أنانية، على رغم أنه يجعل الشخص أباً أو عاملاً أفضل". وحتى وقت الفراغ المتاح لنا، تتنافس عليه خيارات ترفيهية كثيرة قد تقصي العلاقات الخارجية. تقول غولدفارب "يمكنك مشاهدة مسلسل كامل دفعة واحدة. يمكنك مشاهدة أي شيء ترغب به عبر منصات البث وهي خيارات لا تتطلب منك مجهوداً". وفي المقابل، تتطلب الصداقات "مجهوداً كبيراً وعزماً وقد يصدمك ذلك عندما لا تكون معتاداً على بذل هذا المجهود الكبير للحفاظ على الصداقات. فسبب تقلص دوائرنا الاجتماعية هو وجود كل هذه الأمور الأخرى الأسهل لنا التي تتزاحم على تركيزنا، لكنها ليست مجزية بقدر الصداقات العميقة".
وتضيف المعالجة النفسية سمريتي جوشي من منصة الصحة النفسية الرقمية "وايسا" أن الحياة المعاصرة قد تشكلت بطريقة لا تيسر تكوين روابط عميقة والمحافظة عليها. وتقول "نعيش وفق مواعيد صارمة على مدار اليوم، ولدينا برامج عمل كاملة ونقضي وقتاً أطول في التنقل على الطرقات ولدينا كثير من مصادر اللهو الرقمي. وكثر منا يعيشون في منازل أصغر حجماً ولديهم مساحات مشتركة أقل وتواصل عفوي أقل. وفي ظل الانتقال نحو العائلة الصغيرة، وسكن الأفراد وحدهم، أصبح كثير منا يعاني نقصاً حاداً في الطاقة الاجتماعية".
وتشدد أن ما يفاقم المشكلة هو حياتنا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد ازدادت وسائل "التواصل" المتاحة بيننا أكثر من أي وقت مضى، لكن غالباً ما يكون هذا التفاعل سطحياً وغير مجز. وتضيف "قد تشعر بأنك على تواصل مع عدد كبير من الأشخاص. لكن إن نظرت إلى الصورة الأكبر، قد تدرك أنك لم تجر محادثة حقيقية مع أحد منذ أسابيع. قد تتصفح الإنترنت على مدار اليوم وتشعر مع ذلك أنك لا تجد أحداً يفهمك حقاً".
وللأمر تبعات بالغة الخطورة، إذ إن تراجع الصداقات لا يؤثر فقط نفسياً، بل جسدياً أيضاً. فالوحدة مدمرة لصحتنا على المستويين النفسي والجسدي. نحن مخلوقات اجتماعية، والصداقات تساعدنا فعلياً على العيش مدة أطول. فقد أظهرت دراسة "هارفرد لتطور البالغين"، وهي من أطول الدراسات المستمرة عن حياة الإنسان، أن العلاقات القريبة كانت العامل الأهم في سعادة البشر، وهو ما ساعد بدوره في تأخير التدهور الذهني والجسدي. كانت العلاقات الجيدة مؤشراً أفضل على حياة طويلة وسعيدة مقارنة بالطبقة الاجتماعية، أو الذكاء، أو حتى العوامل الوراثية.
متابعات
س ع
اضف تعليق