لا يزال البريطانيون، حتى قبل بضعة أشهر فقط من خروجهم المحتمل من الاتحاد الأوروبي، يواجهون إشكالية عويصة لعلها لم تكن في حسبان كثير من المصوتين لصالح الخروج، هي نُذر عدم التوصل إلى اتفاق مع بروكسل حول مستقبل العلاقة، لاسيما في شقها التجاري ومصير حرية التنقل بين إيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة، وإيرلندا القائمة كدولة مستقلة عضو في الاتحاد الأوروبي، فضلا عن تداعيات ذلك على الأوروبيين في بريطانيا ونظرائهم البريطانيين في دول الاتحاد.
الإشكالية أعمق بكثير مما كان متوقعا قبل الاستفتاء وحتى بعده، ويزيد من وطأتها الشرخُ القائم في صفوف المحافظين وعلى أعلى المستويات في الفريق الحكومي، ما يجعل المعضلة مضاعفة في ظل عدم الاتفاق حول مفهوم الخروج ذاته. بل إن استقالتي بوريس جونسون وديفيد ديفيز قد عكست أزمة حادة في حكومة تيريزا ماي، إذ علق الإعلامي البارز روبرت بيستون على استباق الحكومة إعلان جونسون لاستقالته بنفسه بالقول إن الحرب الأهلية بين ماي والجناح المتشدد المتمرد قد أصبحت متوحشة.
تصريحات المسؤولين البريطانيين، وتحديدا الوزيرين الجديدين في الخارجية ومفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، قد تكون صادمة لكثير من البريطانيين، بالنظر إلى دوافعها وخلفياتها ذات الصلة بما بعد الانفصال، إذ لا تزال خطة تيريزا ماي تفتقد إلى إجماع محيطها الوزاري، وهو ما عبر عنه وزير بريكسيت الجديد دومينيك راب بأنه لم يتمكن من إقناع بعض الوزراء بتلك الخطة التي تعتزم ماي عرضها على الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، يؤكد راب أن بريطانيا جادة في توقعها لاحتمال الخروج دون أي اتفاق، كتحصيلِ حاصلٍ إن لم يُقابَل البريطانيون بمرونة كافية، وإن كان قال في تصريحات سابقة إن بريطانيا لا ترغب في هذا الخيار الذي قد يصبح حتمية لا مفر منها.
الوزير راب حاول تجنب تقديم إجابة واضحة حول سؤال للمذيع الشهير أندرو مار، كان دعوةً لتأكيد أو نفي تقرير عن عزم الحكومة البريطانية تخزين الأغذية تحسبا لاحتمال عدم التوصل لاتفاق. وقد رفض وزير بريكسيت نفي صحة التوقعات بحدوث أزمة غذاء جراء ذلك. وقبل هذه المساءلة للوزير، كان مدير شركة أمازون الأميركية للتجارة الإلكترونية في بريطانيا قد توقع، خلال اجتماع لمسؤولي الأعمال، أن تشهد المملكة خلال أسابيع من الخروج شغبا إن حصل هذا الاحتمال. ورغم أن ثمة من تهجم على الشركة، معتبرا أنها انضمت إلى ما يُطلق عليه المؤيدون للخروج مشروع التخويف، إلا أن تصريحات وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت تؤكد أن التداعيات لن تكون بالشيء الهين.
الوزير الجديد هو الآخر حاول في برلين أن يمارس الضغط على الأوروبيين، وقد عكس كلامُه حجم تلك الأزمة المتوقعة التي قد تكون كارثية بتوصيف بعض وسائل الإعلام البريطانية، فقد سعى إلى تحميل الاتحاد الأوروبي مسؤولية حدوث خروج تلقائي دون اتفاق، بمجرد انتهاء فترة السنتين من تفعيل المادة 50 من اتفاقية لشبونة، والذي سيكون في الـ29 مارس 2019. وحسب جيريمي هانت، فإن شرخا سيحصل بين الجانبين مؤداهُ تغيرٌ في مواقف البريطانيين تجاه الأوروبيين، وأن الرأي العام البريطاني سيحمل الاتحاد الأوروبي مسؤولية ما سيحصل. وبتعبير النائب المحافظ المؤيد للاتحاد دومينيك غريف، فإن حالة كهذه ستكون كارثية أن تخرج بريطانيا دون اتفاق، مؤكدا أن بريطانيا ستكون في حالة طوارئ.
وبالنظر إلى تصريحات تيريزا ماي في مناسبات عدة، والتي قالت فيها إن خروجا دون اتفاق أفضل من خروج باتفاق سيء، فإن واقع ما بعد الطلاق المتوقع لا يُؤيد (على الأقل حسب المسؤولين البريطانيين أنفسهم ووسائل الإعلام) ما قالته رئيسة الوزراء، في ما يبدو أنها كانت محاولة للضغط على بروكسل لتقديم تنازلات للحفاظ على وصول الأوروبيين للسوق البريطانية، مقابل منح بريطانيا امتيازات الوصول إلى السوق الأوروبية دون الالتزام بشروط تلك الامتيازات، إذ تقوم السوق الأوروبية الموحدة على مبدأ الحريات الأربع، وهي: حريات التنقل للسلع ورأس المال والخدمات والناس.
مراقبون يرون أن تيريزا ماي ستحصد ما زرعته بتصريحاتها، على غرار قولتها الشهيرة "بريكسيت مينز بريكسيت"، أي الخروج يعني الخروج، وقولها إن خروجا دون اتفاق أفضل من خروج باتفاق رديء. وعن مصيرها المرتقب، يشبهها هؤلاء بحذوها حذو سلفها ديفيد كاميرون، بمحاولة إرضاء المتشددين تجاه أوروبا داخل حزب المحافظين من حين لآخر، وفي الأخير وجد نفسه مرغما على الاستقالة بعد خسارته الرهان على البقاء في نتيجة الاستفتاء، إذ لم ينل رضا الجناح المتشدد المتمرد من حزبه، رغم مواقفه المتصلبة تجاه عدد من القضايا في الاتحاد الأوروبي.
قوة هذا الجناح حاليا في البرلمان، وأيضا في الشارع المؤيد للخروج، ربما تكمن كما يرى البعض في أن تيريزا ماي قد سهلت له أكثر إطلاق تهمة الخيانة، بتبرير أو بدونه كلما تعلق الأمر بالمفاوضات المتعثرة وخطة الحكومة. ومن الانتقادات الموجهة لماي أنها أقنعت فريقا من الرأي العام بأن الخروج دون اتفاق ليس أمرا سيئا، فقد قالتها مرارا وتكرارا وليس أمرا مفاجئا أن يعتقد بذلك البريطانيون تصديقا لكلامها. وعلى غرار ذلك، فقد رفعت سقف معايير الخروج بتكرارها أيضا لمقولة "الخروج يعني الخروج". ومن غير الممكن لرئيسة الوزراء البريطانية، حسب المراقبين، أن تبلغ ذاك السقف من المعايير الذي وضعه خطابها السياسي.
معركة كسر العظم التي ازدادت شراسة قد تعصف بماي في أية لحظة، فما قالته حول أفضلية الخروج دون اتفاق يبدو غير ذلك تماما، إذ على الأرجح ستكون بريطانيا مكرهة عليه وليس بمحض إرادتها، فضلا عن تبعاته على المديين القصير والمتوسط، بل حتى البعيد إن تحقق الخروج رسميا، ولم يحُل دونه تطور سياسي يقلب الطاولة رأسا على عقب، فثمة قضايا شائكة بينها حدود إيرلندا الشمالية مع الاتحاد الأوروبي، وتداعيات ذلك على التواصل بين الإيرلنديتين وانعكاسه على اتفاق الجمعة العظيمة، والذي شاركت فيه المملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا عام 1998، ويدعو إلى تقاسم السلطة السياسية في إيرلندا الشمالية مع الأقلية الكاثوليكية.
تيريزا ماي تُظهر رباطة جأش للاستمرار رغم أزماتها المتلاحقة، وقد أعلنت الثلاثاء أنها ستقود بنفسها المرحلة المقبلة من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، لكنها قد تواجه مصير كاميرون إن عاجلا أو آجلا، فمعركتها ليست فقط مع المتشددين المتمردين من المحافظين، بل هي أيضا مع المؤيدين للبقاء من حزبها وحزب العمال، وهؤلاء بعضهم يريد استفتاء جديدا، في حين يريد بعضهم خروجا ضامنا لبقاء في السوق الموحدة. كما أن المعركة على أشدها مع المفاوض الأوروبي الذي لن يقامر بخروج يسير يشجع أعضاء آخرين على الاقتداء بالبريطانيين، في ظل تنامي اليمين المتطرف أوروبيا.
إرضاءُ هؤلاء جميعا هو كالمشي على حبلٍ معلق، قد يسقط منه الماشي كلما ترنح قليلا، مهما كانت حنكته ومهارته.انتهى/س
المصدر: وكالات
اضف تعليق