في الوقت الذي تشتعل فيه حرب تجارية يتصارع فيها أكبر اقتصادين في العالم من أجل بسط النفوذ، ويتحدث الجميع عن الخسائر المحتملة والآثار السلبية التي قد تجتاح الاقتصاد العالمي كله؛ إذ يُعتقد أن تصعيد خطوات فرض رسوم جمركية متبادلة قد يؤدي إلى خفض النمو العالمي بواقع 0.5% بحلول عام 2020 بحسب صندوق النقد الدولي؛ تنتظر بريطانيا فوائد تجارية من الصين وأمريكا على عكس الجميع، فكيف يمكن أن تستفيد لندن من هذه الحرب؟
بالرغم من أن لندن قد فقدت مكانتها لمصلحة نيويورك من كونها المركز المالي الأكثر جاذبية في العالم بسبب قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، بحسب مؤشر زدين للمراكز المالية العالمية، إلا أن بريطانيا ربما تكون مركزًا تجاريًا مهمًا بسبب قرار الانفصال؛ إذ يتنافس حاليًا أكبر اقتصادين في العالم على إبرام اتفاقات للتجارة الحرة مع المملكة التي ستصبح بذلك أكثر المستفيدين من الحرب التجارية، التي يتضرر منها الجميع حتى الآن.
الحرب التجارية العظمى.. الجميع خاسر عدا بريطانيا
اعتبر كثيرون أن "بريكست" بمثابة كارثة اقتصادية لبريطانيا، إلا أن هذه الكارثة حمت البلاد من الدخول في الحرب التجارية الحالية التي تعتبر الأعنف منذ سنوات؛ ففي الوقت الذي اشتد فيه النزاع الأمريكي مع كلٍ من الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا، نجد أمريكا تفتح الباب أمام بريطانيا لإبرام اتفاق تجارة حرة بعد الخروج من الاتحاد، وهو ما يجعل هذا القرار إيجابيًا على المستوى التجاري بالنسبة للمملكة.
كيف يشعل ترامب شرارة حرب تجارية عالمية الآن؟
وبالرغم من دخول الجميع في دائرة مغلقة، من فرض رسوم جمركية، ثم الرد، مثلما يحدث مع الصين حاليًا، وهو الأمر الذي يجعل الجميع في حلقة كبيرة من الخسائر، إلا أن بريطانيا بخروجها من الاتحاد الأوروبي لن تكون مجبرة على خوض هذه المعارك، بل قد تكون منشغلة حاليًا في التجهيز لاتفاقات التجارة الحرة، وهو الأمر الذي قد يجعل من بريطانيا رابحًا وسط هذه الحرب.
على مدار الأشهر الأخيرة ظن كثيرون أن أحد أقوى التحالفات في القرن العشرين بين أكبر اقتصاد في العالم، وخامس أكبر اقتصاد في العالم بات على المحك، وذلك بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكن ربما يعيد هؤلاء تقيميهم للوضع بعد اتفاق التجارة الحرة المرتقب بين البلدين اللذين يشكلان 26.3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بقيمة نحو 23.3 تريليون دولار.
وباستثناء الاتحاد الأوروبي المسؤول عن 50% تقريبًا من التبادل التجاري الخارجي مع بريطانيا، فإن أمريكا هي أكبر شريك تجاري منفرد لبريطانيا بعد ألمانيا وهولندا وفرنسا والصين، وتعد بريطانيا أيضًا سابع أكبر شريك تجاري لأمريكا بعد الصين وكندا والمكسيك واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية.
وكما ذكرنا فإن البلدين يمتلكان أكبر مركزين ماليين في العالم – لندن ونيويورك – وبشكل عام توضح المعطيات السابقة مدى أهمية العلاقات الأمريكية الإنجليزية، وهو ما جعل العلاقات بين البلدين توصف بـ"العلاقة الخاصة"، ومنذ يوليو (تموز) 2017، أطلقت بريطانيا والولايات المتحدة محادثات حول اتفاق للتجارة الحرة، إذ قال ترامب حينها أنه "يتوقع إبرام اتفاق تجاري "قوي" مع بريطانيا في القريب العاجل".
هذه المحادثات جنبت بريطانيا الصراع مع ترامب حول الرسوم الجمركية التي كان قد قررها منتصف العام الجاري، فبعكس الدول الأخرى لم يكن موقف بريطانيا الرافض لهذه الرسوم قويًا مثل جيرانها في الاتحاد الأوروبي – فرنسا وألمانيا – إذ هددا بفرض رسوم مماثلة في حين أن موقف بريطانيا كان باهتًا إلى حد كبير، وهو ما يوضح أن البلدين اقتربا من الاتفاق.
على الجانب الآخر، قال وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت، في أغسطس (آب) الماضي، إنه لمس حماسة حقيقية لدى الإدارة الأمريكية، من أجل التوصل إلى اتفاق تجارة حرة مع بلاده بأسرع ما يمكن، وهو الأمر الذي يراه مفيدا للشركات التجارية على ضفتي المحيط الأطلسي، في حين أن ترامب وصف بريكست بأنه "فرصة رائعة سيغتنمها بالكامل"، في إشارة إلى حماسه حول اتفاق التجارة الحرة.
وفي خطوة يمكن القول أنها استباقية تم إعداد نص مقترح للاتفاقية التجارية الجديدة بين البلدين من قبل مبادرة التجارة الحرة (IFT)، وعمومًا من المؤكد أن أمريكا لن تترك هذه الفرصة في ظل منافستها التجارية الشرسة مع الصين؛ إذ إن الاتفاق التجاري مع بريطانيا يساعد أمريكا على معالجة الخلل التجاري في الميزان مع الصين، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين بالفعل أكثر من 200 مليار دولار، بينما يمتلكان استثمارات متبادلة بقيمة تريليون دولار، في اقتصاد كلا البلدين، وتدعم التعاملات التجارية بين البلدين أيضًا أكثر من مليون وظيفة في كلا البلدين، وهي فوائد يسعى ترامب لتعزيزها.
هكذا تغري الصين بريطانيا
رغم أن بكين غارقة حاليًا في حرب تجارية مع واشنطن، إلا أنها تحاول البحث عن أصدقاء جدد تعزز بهم تجارتها؛ إذ عرضت على بريطانيا إجراء مباحثات بشأن اتفاق للتجارة الحرة في مرحلة ما بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي؛ وهو الأمر الذي رحبت به بريطانيا في الوقت الذي تتأهب فيه لمغادرة الاتحاد الأوروبي العام المقبل.
ولا شك أن الصين إحدى الدول التي تود بريطانيا أن توقع اتفاقًا للتجارة الحرة معها بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وتعد بريطانيا هدفًا مهمًا للصين في ظل اشتعال الحرب التجارية، إذ إن لندن ستكون حليفًا مهمًا لبكين في طريقها نحو دعم حرية التجارة، وهو ما أكده وانج يي، عضو مجلس الدولة الصيني خلال لقاءه مع وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت، مؤخرًا، وأن على الصين وبريطانيا معارضة الحماية التجارية ودعم التجارة العالمية الحرة.
ويمكن القول إن إبرام اتفاق تجاري مع الصين سيكون نصرًا سياسيًا للحكومة البريطانية، إلا أن التوترات التجارية بين واشنطن وبكين تجعل من اتفاق الصينيين مع بريطانيا هدفًا مهمًا لمواجهة حرب ترامب، وهو ما ظهر من الاتفاقات التي حصلت عليها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي خلال زيارتها الأخيرة للصين في فبراير (شباط) الماضي، والتي بلغت 12.83 مليار دولار، ومن شأنها أن توفر أكثر من 2500 وظيفة في أنحاء المملكة المتحدة.
وفي بداية العام الماضي أطلقت الصين أول قطار شحن إلى لندن؛ ليغادر القطار محطة السكك الحديدية الغربية في ييوو بمقاطعة تشيجيانغ شرق الصين والمعروفة بإنتاج السلع، في رحلة استغرقت حوالي 18 يومًا بمسافة تزيد عن 12 ألف كيلومتر، وصولًا إلى لندن، عبر نفق بحر المانش، وحمل القطار بضائع رئيسة من بينها مستلزمات منزلية وملابس وأقمشة وحقائب.
وهذه الخطوة كان ينظر إليها حينها بأنها ستحسن العلاقات التجارية بين الصين وبريطانيا، كما قالت ماي، حينها: إن "العلاقة مع الصين تتيح فرصة (ذهبية) لجلب استثمارات صينية بمليارات الدولارات"، وهي الفرصة التي لن تتركها الصين؛ إذ تتوقع الحكومة البريطانية أن تصبح الصين واحدة من أكبر المستثمرين الأجانب في بريطانيا بحلول عام 2020.
اتفاق الخروج قد يكون العائق
جدير بالذكر أن بريطانيا لن تتمكن من إبرام أي اتفاق تجاري إلا بعد الخروج الرسمي من الاتحاد الأوروبي؛ إذ تمنع قواعد الاتحاد الأوروبي بريطانيا من إبرام أي اتفاق رسمي مع أي دولة خارج التكتل قبل خروجها المقرر في مارس (آذار) 2019، لذلك كل ما ذكرناه آنفا سيكون معلقًا إلى أن تنتهي إجراءات الخروج، ولكن هل يمكن أن يتعثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الموعد المحدد؟
في الواقع حتى الآن فشلت بريطانيا في التوصل للاتفاق للخروج من التكتل الأوروبي، وهو الأمر الذي وصفته رئيسة الوزراء البريطانية بالـ"مأزق"، وهو بالفعل سيكون مأزقًا اقتصاديًا كبيرًا أمام الحكومة البريطانية، إلا أن ماي قالت مؤخرًا: إن بلادها لن تتراجع أمام حالة الجمود في محادثات الخروج من الاتحاد الأوروبي، مطالبة زعماء التكتل بتقديم اقتراحات جديدة، بعد أن وصلت المحادثات إلى طريق مسدود.
لكن رغم تمسك بريطانيا بالتوصل إلى اتفاق، فإن احتمال الخروج بدون اتفاق أمر وارد جدًا، وسيكون هذا الأمر عائقًا أمام بريطانيا في إنجاز اتفاقات تجارية سريعة ما بعد الخروج، لكن في النهاية لن تتخلى كلٌّ من أمريكا والصين عن الحصول على أكبر استفادة ممكنه من بريطانيا ما بعد الاتحاد الأوروبي، وهو بالطبع ما سيصب في مصلحة بريطانيا عمومًا. انتهى/خ.
المصدر: ساسة بوست
اضف تعليق