في سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان "الجناح الغربي" البرنامج التلفزيوني المفضل لدى الجميع، والذي يتناول إدارة أميركية طموحة ــ حاربت الإرهاب دون أن تشن حربا على منطقة بأسرها أو ديانة، ورفضت وطء وإهدار سيادة القانون، وكانت في عموم الأمر تتخذ القرارات التي تصب في مصلحة البلاد، وتمنى كثيرون لو يحل الرئيس الخيالي الهادئ الرابط الجأش الذي لعب دوره الممثل مارتن شين محل الرئيس الأميركي الأشبه برعاة البقر جورج دبليو بوش، ونائبه المقرب المروج للحروب ديك تشيني.
إلى حد ما، هذا هو على وجه التحديد ما يحدث الآن في أوكرانيا، ففي وقت سابق من هذا الشهر، فاز الممثل الكوميدي فولوديمير زيلينسكي، الذي كان سبب شهرته الوحيد لعب دور معلم تحول إلى رئيس في المسلسل التلفزيوني الشعبي الشهير "خادم الشعب"، بمنصب الرئاسة بأغلبية ساحقة، ولكن بعيدا عن خيال الرئيس المثالي، يُعَد هذا مثالا آخر على الواقع المشوه ــ المألوف من منظور الأوكرانيين ــ حيث تحدد شخصيات، وليس القادة، معالم السياسة.
تقول الكاتبة نينا خروشجيفا في مقال نشرته بروجيكت سايندكيت أن "زيلينسكي ليس أول شخص غير سياسي يتمتع بكاريزما قوية يفوز بالسلطة السياسية في السنوات الأخيرة، كان المثال الأكثر وضوحا المطور العقاري ورجل تلفزيون الواقع دونالد ترمب، ولكن في النمسا، والمجر، وإيطاليا، وروسيا، وأماكن أخرى، استخدمت شخصيات أيضا الخطاب الشعبوي لاجتذاب الناس العاديين الذين يشعرون بأن النخب تتجاهلهم، كما شارك ممثل كوميدي آخر، بيبي جريلو، في تأسيس حركة الخمس نجوم في إيطاليا، والتي أصبحت الآن الحزب الرئيسي في الحكومة، على الرغم من تنحيه في يناير/كانون الثاني 2018، قبل أسابيع من الانتخابات التي جلبت حزبه إلى السلطة".
وتضيف "ينطوي هذا الاتجاه على فوارق دقيقة، بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية في عام 2016 في الولايات المتحدة، تذكرت رواية "عالم جديد شجاع"، حيث استحضر مؤلفها ألدوس هكسلي مستقبلا دمرت فيه البشرية نفسها بفِعل الجهل وشهوة الترفيه الغافل الأحمق، والواقع أن ترمب، الذي يلتهم شطائر البرجر وهو يشاهد في ابتهاج القصص التي تبثها قناة فوكس نيوز عن شخصه، يجسد هذا المزاج".
وتابع "في حين ساهمت تركيبة تتألف من الإفراط في التسلية واللهو وقِلة المعرفة في اختيار الأميركيين ترمب رئيسا لهم، فإن الأوكرانيين كانوا باختيارهم الأخير يردون على خيانة الساسة للمثل والقيم التي أعلتها احتجاجات "الميدان" في عامي 2013 و2014، والتي سعت إلى إخراج أوكرانيا من شَرَك روسيا، كان الأول بين المرتدين الجاحدين الرئيس بترو بوروشينكو، بطل الميدان الذي انتهت به الحال إلى كونه تجليا من تجليات نظام القِلة القديم، والآن يدعم أغلب الأوكرانيين تغييرات راديكالية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية".
وتشير خروشجيفا الى انه "على هذا، فبرغم افتقاره إلى أي مؤهل سوى كونه شخصية تلفزيونية جذابة، تمكن زيلينسكي من إقناع الناخبين بأن نقص خبرته ربما يكون رهانا أفضل من ولاية أخرى لقيادة بوروشينكو الفاسدة، وعلى الرغم من افتقاره إلى أي فريق سياسي أو برنامج سياسي متميز، فاز زيلينسكي بنحو 73% من الأصوات ــ وهي حصة لا يحصل عليها عادة سوى الحكام المستبدين الذين يخنقون المعارضة ويتلاعبون بصناديق الاقتراع".
تقول خروشجيفا انه "كان اختيارا يائسا، كما قال محام صديق شاب أوكراني معربا عن أسفه: (أي شخص برجماتي عملي سليم التفكير كان ليصوت لصالح بوروشينكو، أو ربما حتى رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو)، لأنهما على الرغم من عيوبهما (فعلا الكثير من أجلنا). لكن صديقي أضاف: (نحن لا نفكر كمجتمع برجماتي).
كانت المناظرات بين المرشحين كاشفة في هذا الصدد. ففي مواجهة زيلينسكي في إستاد للألعاب ــ وهو موقع غير تقليدي اختاره الممثل الكوميدي ــ سلط بوروشينكو الضوء على إنجازاته الشخصية، من مقاومة الروس في شرق أوكرانيا إلى تأمين الدخول بدون تأشيرة إلى الاتحاد الأوروبي لكل المواطنين الأوكرانيين. من ناحية أخرى، كان زيلينسكي يمازح الناس، ويتحدث اللغة الروسية باستخفاف ساخر، واستغرق في الضحك فعليا في استهزاء بشعار بوروشينكو الوطني "الجيش، اللغة، والإيمان".
كما أوضح صديقي المحامي تقول خروشجيفا، فإن السياسات اللاعقلانية ليست بالأمر الجديد على أوكرانيا، التي كان تاريخها "كرنفالا دائما يقوده حفنة من المهرجين". أعلن الأمير فولوديمير، الذي جلب المسيحية إلى الروس في كييف في أواخر القرن العاشر الميلادي، أن تعاطي الخمر هو بهجة الروس ومصدر سعادتهم". ثم في قرون لاحقة، كان القوزاق، حرس كاثرين العظمى المستقلة الرأي، مؤدين راسخين بارعين، بشواربهم الطويلة، وقبعات الفرو، واستعراضهم الكرنفالي تقريبا لذكوريتهم.
وتضيف "حتى عندما كان التهريج يغيب عن السياسة الأوكرانية فإن حب الظهور والاستعراض كان من سماتها الأساسية. في الثورة البرتقالية عام 2004، عندما رفض الأوكرانيون فوز فيكتور يانوكوفيتش في انتخابات رئاسية مزورة، لم تظهر يوليا تيموشينكو كزعيمة سياسية فحسب، بل قامت أيضا بدور البطلة الشعبية، فكانت تقود المحتجين إلى المتاريس وقد صففت شعرها على هيئة الجديلة الأوكرانية التقليدية الشقراء التي تلف حول الرأس".
وتتابع بالقول "لاحظ صديق أوكراني آخر، وهو عالِم في أوسط العمر، أن أقرب سلف لزيلينسكي ربما كان أندري دانيلكو ــ المضيف والمؤدي الأوكراني الأشهر، والممثل الكوميدي الموسيقي الذي يؤدي وهو يرتدي ملابس نسائية تحت الاسم المسرحي فيركا سيردوشكا. في عام 2007، حاول دانيلكو تشكيل حزب سياسي، لكنه فشل".
وفقا لهذا الصديق تقول الكاتبة الاوكرانية، "كان احتضان الأوكرانيين لزيلينسكي مدفوعا بنفس الرغبة الثورية التي أشعلت شرارة الاحتجاجات في 2004 ثم في 2013-2014. وكما شرح لي صديقي، فإن يوليا تيموشينكو الموالية للغرب كانت لتحدث التغيير الذي يريده الأوكرانيون، فإن الناخبين في عامنا هذا كانت رغبتهم أقوى في رفض النظام الحالي بالكامل. وكانت حقيقة أن دونالد ترمب يشرف على اقتصاد أميركي مزدهر سببا في تعزيز رغبتهم في الرهان على شخصية تلفزيونية".
وتستدرك "حتى زيلينسكي قد لا يكون الاختيار المتمرد كما يبدو. وقد شكك بعض المراقبين في علاقات تربطه بالقِلة النخبوية ــ وخاصة إيجور كولومويسكي، صاحب القناة التلفزيونية التي تبث برنامجه. ويقترح كثيرون أن كولومويسكي اشترى فعليا الانتخابات حتى يتمكن هو من حكم أوكرانيا من وراء الكواليس. هناك أيضا بعض تكهنات، وإن كانت بلا أساس، مفادها أن زيلينسكي في حقيقة الأمر مشروع أعده الرئيس الروسي فلاديمير بوتن".
وتختتم بالقول : أيا كانت الوسيلة التي وصل بها إلى السلطة فإن زيلينسكي يواجه الآن المهمة الضخمة المتمثلة في بناء دولة تعمل على تحسين حياة الناس من خلال تقديم خدمات جيدة. أما عن الحرب في شرق أوكرانيا، فحتى لو تمكن زيلينسكي من إنهائها، فلن يعيد بوتن شبه جزيرة القرم، التي لن يسمح أي أوكراني للكرملين باعتبارها ملكا له. تُرى هل يجوز لنا حقا أن ننتظر من ممثل هزلي بلا خبرة أو فريق أو برنامج أن يتغلب على مثل هذه التحديات؟ الحق أن أوكرانيا عَرَض وليست عينة نموذجية. وفي عالم يشبه على نحو متزايد مدينة هكسلي "الفاسدة"، حيث أصبح الزعماء السياسيون الحقيقيون ــ الذين يتسمون بالخبرة ولكن أيضا النزاهة، والقوة ولكن أيضا الاهتمام، والكاريزما ولكن أيضا الجدية ــ قِلة وعلى مسافات متباعدة، فإننا جميعا معرضون لخطر أن يحكمنا مهرجون.
اضف تعليق