لسنوات طويلة استمر الفراق بينها وابيها، واستطاعت مواقع التواصل الاجتماعي لم شمل كوثر الوليد المغربية مع والدها العراقي.
للمرة السادسة تطأ قدما كوثر الوليد أرض السفارة العراقية بالعاصمة المغربية الرباط، راودها مزيج من مشاعر الرهبة والفرح وهي تدفع باب السفارة لتسلّم التأشيرة والاقتراب من نهاية رحلة طويلة ستلمّ شملها بوالدها العراقي وإخوتها الخمسة الذين لم ترهم في حياتها.
وتقول كوثر للجزيرة نت التي رافقتها في زيارتها الأخيرة لمقر السفارة، إنها تشعر في كل مرة تدخلها بأنها في وطنها الذي لم تعش فيه ولم تتنفس هواءه ولم تشرب ماءه، لكنها تحس بانتماء غريب إليه.
قصة كوثر المغربية التي ترعرعت وشبّت في طنجة أشبه بفيلم سينمائي كما تصفها؛ ولدت وكبرت من دون أن ترى والدها العراقي، وظنّت في بداية شبابها أنه ميت، لتكتشف عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنه حي يرزق وأن لها إخوة، لا يفصلها عنهم حاليا سوى ثمن تذكرة السفر لتعانقهم ويعانقوها.
بداية القصة
قصة المغربية كوثر مملوءة بالدموع واللهفة، قضت الشهور الأخيرة وهي تعيش على أمل أن تلتقي والدها وإخوتها، لا يخفف لهيب الشوق سوى مكالمات يومية تتبادل معهم فيها الحديث عن يومياتها وعن أحوالها.
وتحكي أن جراب ذكرياتها يحتفظ بصوت والدها عندما كان يكلمها هاتفيا وهي طفلة صغيرة في المستوى الابتدائي، ولا تعرف ملامحه إلا من خلال صورة قديمة باهتة.
تزوج والداها في طنجة من غير أن يستكملا الوثائق الإدارية بسبب التعقيدات، وانفصلا قبل أن تولد؛ عاد الوالد إلى العراق حيث تجارته وأعماله، وظل يهاتفها بين الفينة والأخرى بهاتف بقال الحي، إلى أن جاءت حرب الخليج في بداية التسعينيات ففقد معها وسيلة الاتصال بابنته.
انقطاع الأخبار بين الطفلة التي عاشت في أحضان جدتها بعد زواج أمها في مدينة أخرى جعل الأم تخبرها بوفاته لتنهي سيل الأسئلة الذي لم يتوقف.
وكبرت الفتاة وتزوجت وكوّنت أسرتها الصغيرة وكبرت معها غصة اليتم؛ تقول إن اقتناء هاتف ذكي واكتشاف عوالم جديدة أتاحتها شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي جعلها تفكر في البحث عن خيط وإن بدا رفيعا يقودها إلى عائلتها في العراق.
راسلت شخصية عراقية بشأن قصتها، وأرسلت له صورة والدها الوحيدة التي تحتفظ بها، ومعلومات تتضمن اسمه وعمله راجية التفاعل معها، فكانت المفاجأة.المحاولة تنجح
يقول أبو الحسين الدليمي -الذي نشر قصة كوثر في مجموعات عراقية عدة- إن كوثر بعثت له طلب صداقة على حسابه بفيسبوك وحكت له قصتها وطلبت منه مساعدتها في العثور على أسرتها في بغداد.
ويضيف الدليمي -وهو موظف حكومي متقاعد-، "نشرت قصتها عبر الفيسبوك في مجاميع تنشط في الأعظمية والرمادي والأنبار، واتصلت بكثير من الأصدقاء والوجهاء من الدليم وشحذت هممهم.. وطلبت من العديد مشاركة المنشور حتى بلغ عدد المشاركات أكثر من التصور.. وعندئذ برز أحد الوجهاء وقال إنه يعرف أباها وليد وإنه سيتصل به، وفعلا اتصل به واعترف بها فورا.. تلك كانت ملخص قصة البحث، ولقد وفقنا الله".
معركة إثبات النسب
عثرت كوثر الوليد على والدها الذي تحتفظ بصورته شابا لتراه عبر تطبيقات التواصل بالفيديو وقد غزا الشيب شعره وقارب عقده الثامن، وتعرفت على إخوتها الخمسة وأبنائهم، لتبدأ معركة إثبات نسبها لوالدها.
"كانت معركة طويلة ومضنية"؛ تقول كوثر وصوتها يرتعش، فتفاصيل الحكاية كثيرة واستمرت ما يفوق السنة، ولا تدري أيها أولى بالسرد، غير أنها بمجرد حصولها على التأشيرة من السفارة العراقية الخميس الماضي أزاحت عن كاهلها ثقلا كبيرا.
"لا أصدق أنني أحمل التأشيرة، فهي الطريق الذي سيقودني إلى أهلي"، تقول ويداها تمسكان بشدة على حقيبة يدها، وتضيف "لم يعد يفصلني عن اليوم الموعود سوى ثمن التذكرة".
كوثر وزوجها لا يعملان في الوقت الحالي عملا دائما، لذلك طرقا أبواب جمعيات لمساعدتهم على توفير تذكرة السفر لحضور جلسة إثبات نسبها في 24 من الشهر الجاري ولقاء عائلتها.
لقاء هاتفي
تقول بأسى إن والدها الذي كان تاجرا كبيرا تراجعت أعماله في سنوات الحرب الأخيرة التي شهدها العراق، وأضحت أسرتها تعيش ظروفا صعبة بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، "فلو كان أبي في وضع مادي جيد كما كان لوفّر لي ثمن التذكرة لكني أتفهم الظروف، ومتفائلة بأن كل العقبات ستنتهي".
منذ مغادرتها طنجة صوب الرباط وحتى عودتها لم تتوقف اتصالات أخيها الأصغر عبر الهاتف للاطمئنان على سير الأوضاع، وفي حديث مع الجزيرة نت عبر الهاتف لم يتوقف عن ترديد عبارة "الحمد لله"؛ كانت عبارة تحمل مشاعر مختلطة بين الفرحة والتطلع إلى قرب يوم لقاء كان صعبا تحققه.
مشاعر مختلطة
عاشت كوثر وحيدة من دون عائلة منذ وفاة جدّتها، ووجدت في عائلتها ببغداد احتضانا أنساها سنين الوحدة، تشرح هذا الاحتضان فتقول "رغم أنني لم ألتق بهم بعد إلا أنهم يسألون عني كل يوم، يطمئنون علي ويتابعون أحوالي، أحسست بمعنى العائلة والحنان".
رحلة إعداد وثائق السفر
في خضم كل ذلك، لا تنسى كوثر دور زوجها في دعمها وتذليل الصعاب أمامها خلال رحلتها لإعداد الوثائق اللازمة للسفر، ولا تنسى دور العراقي محمد مهدي الخفاجي صاحب صفحة الجالية العراقية بالمغرب، الذي أسهم بدور كبير في تسريع الإجراءات وساعدها في كل المسائل القانونية التي تطلّبها ملفها.
تتذكر عندما احتاج والدها إلى بعض الوثائق لاستكمال ملف إثبات هويتها في محكمة ببغداد، فعرض الخفاجي إيصال الأوراق وتسليمها يدا بيد لوالدها، في تلك اللحظة راودتها مشاعر جياشة وغريبة "عندما وصلت الورقة إلى والدي، كنت أقول لنفسي وأنا أعزّيها (لقد لمس والدي ورقة لمستها أنا أيضا)، كان هذا الأمر مهما لدي".
توفير تذكرة
وطوال هذه الرحلة الصعبة، كان الأمل والتفاؤل رفيقي كوثر الوليد في مسعاها للمّ شملها بعائلتها في العراق، وما زال الأمل رفيقها مع اقتراب هذه الرحلة من نهايتها السعيدة بتوفير تذكرة تقودها على جناح السرعة إلى عناق وحضن أب لم تحصل عليه طوال عمرها الذي بلغ 38 عاما.
اضف تعليق