سلطت مؤسسة الإمام الشيرازي، الضوء على سيرة السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) بالذكرى السنوية لرحيله.
وجاء في بيان للمؤسسة حصلت وكالة النبأ:
*ذكرى رحيل الإمام الشيرازي: تراث متألق ونهضة متجددة وعبر مستدامة*
بسم الله الرحمن الرحيم
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)
صدق الله العلي العظيم
تمر علينا الذكرى السنوية لرحيل الإمام المجدد آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى في الثاني من شوال عام 1422هـ (2001م)، تاركا خلفه إرثا فكريا وعلميا ومؤسساتيا كبيرا يجسد أهمية دور العلم والعلماء في ترشيد الحركة التاريخية وإصلاح المجتمعات وبناء الانسان وتنميته.
لقد كان الإمام الشيرازي نموذجا للعالم الرباني الذي جمع بين عمق العلم وتجدد الفكر وموسوعية الإطلاع وصدق الإيمان وقوة العمل والاخلاص في سبيل الله تعالى، فرفع الله تعالى مكانته بين المصلحين، وأصبحت أفكاره منارا تهتدي بها المجتمعات الانسانية نحو طريق العدل والحرية والاصلاح واللاعنف.
ونجدد استذكار هذه المناسبة العظيمة من اجل استخلاص العبر واستلهام الدروس من المحطات التي شكلت حياة المجدد الشيرازي لتنير لنا الدرب وتعطي الامل للشعوب والمجتمعات في الحصول على حياة أفضل.
*محطات مضيئة:*
ولد الامام الشيرازي (رحمه الله) في مدينة العلم، مدينة النجف الأشرف(1928م)، مركز العلم والتشيع العالمي، وتربى في أسرة علمية عاملة عريقة، كان منها "الميرزا محمد حسن الشيرازي" قائد ثورة التبغ (1891م) ضد الاستعمار البريطاني، و"الشيخ محمد تقي الشيرازي" قائد ثورة العشرين في العراق (1920) مما زرع فيه روح المقاومة منذ الصغر.
وقد أسس السيد الشيرازي (رحمه الله) في كربلاء (1960م) نهضة تعليمية شملت عشرات المدارس وحلقات الدرس والمؤسسات الثقافية والخيرية والكتب والمجلات، كانت الاساس للحوزات والحركات العلمية والثقافية المهمة في كربلاء المقدسة.
ورغم تهجيره الى المنفى، أنشأ في إيران أكثر من 100 مؤسسة تعليمية وخيرية، وألف اكثر من 1,300 كتاب، منها موسوعة الفقه في 160 مجلدا.
*مقاومة الاستبداد:*
عاش الإمام الشيرازي حياةً مليئةً بالتحديات، حولها إلى فرص لتعزيز مشروعه الإصلاحي، وقد أسس لمرحلة جديدة من حياته بعد التهجير القسري من العراق (1970م) بعد معارضته لنظام البعث، فقد هجر قسراً من العراق إلى الكويت، حيث أسس هناك عشرات المدارس والمكتبات.
وقد انتقل لاحقاً من الكويت الى إيران (1979م) حيث تعرض لمحاولات اغتيال عديدة، وتعرض لمضايقات عديدة، لكنه استمر في التأليف والبحث والقاء المحاضرات وتأسيس دور العلم والمكتبات والمدارس والمراكز البحثية والخيرية وطباعة الكتب حتى اخر يوم من عمره الشريف.
*رؤى الإمام الشيرازي الفكرية:*
أسس الإمام الشيرازي منظومة فكرية شاملة، جمعت بين العمق الشرعي والرؤية المستقبلية، وارتكزت على العديد من الاسس منها:
1. اللاعنف كفلسفة حياة: آمن الإمام الشيرازي بأن العنف ينتج عنفا مضاد في دوامة لا تنتهي من الدمار، ودعا إلى اعتماد السلم كمنهج للتغيير، مستندًا إلى قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)، وقد طبق الشيرازي هذا المبدأ عمليا خلال مواجهته لأنظمة الاستبداد، حيث رفض الانخراط في أي عملٍ مسلح، وفضل التغيير عبر التعليم والحوار والعمل السلمي.
2. الدولة الشوروية: دعا إلى نظامٍ سياسي يعتمد التعددية الحزبية وتوازن السلطات وحماية الحريات العامة، معتبرا أن "الشورى هي الضامن الوحيد لتحقيق العدالة، واستشهد بقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)، وقد حارب طوال مسيرته الأنظمة الديكتاتورية التي تهمش إرادة الشعوب وتسلبهم حقهم في الحياة الكريمة.
3. الوحدة الإسلامية العملية: نادى بتوحيد الجهود بين المذاهب والملل المختلفة داخل الامة الاسلامية عبر مؤسسات مشتركة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، مؤكدا أن الاختلاف بينها لا يبرر الفرقة والتناحر، بل ينبغي أن يكون تنوعا في إطار الوحدة الاسلامية، مستندا إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10).
4. الفقه الحركي: قدم قراءة معاصرة للفقه تركز على قضايا الإنسان المعاصر، مثل العدالة الاجتماعية وحقوق المرأة، حيث دعا إلى توزيع الثروات بشكلٍ عادلٍ، وانتقد النظم الاقتصادية التي تعمق الفوارق الطبقية بين افراد المجتمع. وأكد على دور المرأة في بناء مجتمع متوازن، ورفض تهميشها او تجهيلها او الغاء دورها وان لا يتم استعبادها كما يفعل الغرب في الوقت الراهن.
5. نشر المعرفة والعلم: اعتبر أن العلم سلاح لا يقهر، وأن تخلف الأمم سببه هجر العلماء لدورهم في نشر العلم والمعرفة، ودعا إلى:
- تأسيس مدارس وجامعات وحوزات علمية ومكتبات ومساجد وحسينيات في كل قرية ومدينة.
- طباعة الكتب وتوزيعها مجانًا من اجل تحقيق النهضة الحضارية الشاملة.
- دعم الباحثين الشباب في مشاريعهم العلمية.
- تأسيس المحطات التلفزيونية والاذاعية، وإصدار الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية، لنشر الوعي والثقافة الإسلامية الحيوية.
*الآيات الحيوية المنسية*
وهي الآيات القرآنية الكريمة التي ركز عليها الامام الراحل في كتبه ومحاضراته كونها الاساس الذي يشكل نهضة المسلمين وعزتهم، وقد عبر عنها بالآيات المنسية وخاصة في هذا العصر، وذلك لأن المسلمين وإن تظاهر الكثير منهم بالاهتمام بالقرآن الكريم شكلاً، إلا أنهم لا يطبقون المضامين التي تحملها هذه الآيات في جوانب حياتهم العملية، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بالهجران، لذلك نجد السيد الشيرازي في الكثير من كتبه ما فتئ يدعو إلى العمل والالتزام بها، ومن هذه الآيات:
1. آية الأخوة الإسلامية، كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
2. آية الأمة الواحدة، كما في قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).
3. آية الحرية، كما في قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
4. آية الشورى، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).
5. آية السعي، كما في قوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى).
6. آية السلم والسلام، كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً).
7. آية التعددية، كما في قوله تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
رحل الإمام الشيرازي جسدا، لكن الله رفعه بالعلم والإيمان كما وعد في كتابه، لقد ترك لنا درسا بأن العالم لا يموت إذا أحيى فكرًا، والمصلح لا يغيب إذا زرع أملًا، فلتكن ذكراه دليلنا نحو وحدة تحيي الأخوة والتعايش، وعلم تنهض به الأمة، وإيمان يرفعنا إلى مراتب العزة.
ان احياء ذكرى رحيل الامام السيد محمد مهدي الشيرازي تمثل فرصة حقيقية لتحقيق انطلاقة نحو المساهمة في الاصلاح ودفع عجلة التغيير نحو الافضل، وهي حركة لا تقتصر على جهة او فرد او مؤسسة بذاتها، بل الجميع معني بهذا الحراك بمختلف توجهاته (الفكرية، الثقافية، الاجتماعية، المؤسساتية، الاقتصادية، السياسية ...الخ)، خصوصاً وان السيد الشيرازي كان يؤمن بان "كل فرد حركة"، وان تأثيره يمكن ان يصنع التغيير في اجيال كاملة.
وفي الختام نسأل الله عزوجل ان يرحم علمائنا الاعلام الماضين، ويحفظ ويطيل في عمر الباقين منهم، وان يجعلنا من السائرين معهم على نهج مدرسة اهل البيت الطاهرين (عليهم السلام).
*مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية*
العراق-كربلاء المقدسة
29/رمضان/1446 - 30/3/2025
اضف تعليق