أمسى العراق بمرمى كارثة مائية في ظل تواصل سنوات الجفاف وآثار تغير المناخ واستمرار تركيا وإيران في بناء السدود والتحكم في تدفق المياه، ما يحرم المزارع والشركات والسكان العراقيين من المياه.

وتبقى المناطق الكردية في البلاد بمنأى -نسبيّا- عن الآثار الأكثر حدة بفضل موقعها في اتجاه المنبع وتسجيلها مستويات تهاطل أمطار أعلى، ولكن سوء الحوكمة في إقليم كردستان يفاقم حالة نقص المياه الحاد.

وتعدّ أربيل مركزا حضريا متناميا يجذب العمال من جميع أنحاء إقليم كردستان ووسط العراق، والكثير منهم تخلّوا عن الحياة الريفية بسبب تأثيرات تغير المناخ المتزايدة على الزراعة، وتتلقى المدينة بعض المياه من محطة إفراز التي تستمدّ مياهها من نهر الزاب الكبير.

لكن قدرة هذا النهر تبقى محدودة، ما دفع إلى الاعتماد على ضخ المياه الجوفية حيث تقرر حفر الآبار على عمق 700 متر في الأرض، وذكر مسؤولون محليون أن بعض الآبار المحفورة على عمق 500 متر قد جفت تماما.

ولذلك تواجه أربيل نقصا مزمنا في المياه، وتعاني الأحياء الأكثر فقرا من شح المياه. ويبقى السكان مدة أسابيع دون إمدادات مناسبة، وهو ما يدفعهم إلى شراء المياه من الشاحنات لملء صهاريجهم المُقامة على الأسطح، ويولد هذا الوضع شعور السكان بالاستياء، وتعد الاحتجاجات الصغيرة شائعة في أربيل، حيث يعرقل السكان حركة المرور على الطرق الرئيسية للفت الانتباه إلى هذه القضية.

ولا تتسامح الحكومة المحلية، التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني، مع الانتقادات العلنية، ويدرك السكان ذلك، ويحددون مدة مظاهراتهم لتجنب الاعتقال وانتقام قوات الأمن.

ويشير الكاتب وينثروب رودجرز في مقال نشر بموقع عرب دايجست إلى أن نقص المياه أصبح موضوعا مطروحا للنقاش على نطاق واسع في أربيل وتعتمده أحزاب المعارضة ورقة لإحراج الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم، لكن الضغط الشعبي لم يسفر عن أي استثمار جديد يهدف إلى تحسين إمدادات المياه في أربيل أو تنويعها، ومن المرجح أن يواجه السكان الذين يعانون العطش الظروف نفسها أو ما هو أسوأ منها سنة 2025.

وعادة ما يحصل سكان السليمانية، ثاني أكبر مدينة في إقليم كردستان، على ما يكفي من المياه بفضل سدّ دوكان القريب، لكنهم يواجهون تحديا مختلفا، وهو الأمراض التي تنقلها المياه.

وأعلنت السلطات المحلية في 24 أغسطس الماضي عن إصابة ثمانية أشخاص بالكوليرا؛ وذلك بسبب تلوث مجرى النهر، وهو تلوث صادر عن المدينة.

ويعد نهر تنجيرو أحد أكثر المجاري المائية تلوثا في العراق، ونظم سكان قضاء دربندخان اعتصاما لمدة شهر في 2023، للمطالبة بتحسين نوعية مياه الشرب، لكن الوعود التي تلقوها لم تتحقق.

وتسلط المشاكل في أربيل والسليمانية الضوء على حقيقة غياب محطات رئيسية لإعادة تدوير المياه في إقليم كردستان وتحويلها إلى مياه صالحة للاستخدام، وتعتمد الكثير من البلدان هذه التكنولوجيا، وهي تساعد على تخفيف حدة نقص المياه ومكافحة تلوثها ومن ثمة الحد من الأمراض التي تترتب على التلوث.

ووقعت حكومة إقليم كردستان عدة اتفاقيات مع وكالات تنمية أجنبية لبناء محطات لمعالجة المياه، لكن الخطط لم تنفذ في النهاية، ومن الغريب أن تبدو الحكومة غير قادرة على إحراز تقدم في مواجهة الحاجة الواضحة، رغم توافر المساعدات الأجنبية وبساطة التكنولوجيا.

ويعدّ هذا مثالا بالغا على معضلة التنمية في جميع أنحاء العراق، سواء في المناطق الاتحادية أو في إقليم كردستان، ويواجه المواطنون العاديون يوميا قضايا حياتية قد تتطلب حلولا معقدة تقنيا ولكن يمكن فهمها ومعالجتها بالتمويل والخبرة والإرادة السياسية، وتنعقد المؤتمرات، وتشتغل مراكز الفكر، ويعِد السياسيون، ولكن البلاد لا تسجل أي تقدم في النهاية.

ويعتقد رودجرز أنه "من المحبط أن يفتقد القادة العراقيون والأكراد إلى الإرادة اللازمة لمواجهة القضايا ذات الصلة بالمياه، في حين أنه يُفترض تخصيص نسبة ولو قليلة من الثروة النفطية الهائلة لتحسين البنية التحتية المائية، بما في ذلك إعادة تدوير المياه المستعملة، لكن سوء السياسة العامة والفساد وقلة الاهتمام تحوّل الموارد بعيدا عن معالجة هذه القضايا".

وبينما تستطيع النخب الثرية تأمين وصول موثوق إلى المياه النظيفة والكهرباء وغيرها من الخدمات، يعاني العراقيون العاديون أكثر من غيرهم عندما تتردّى هذه الخدمات، وعلى الرغم من أن الكثيرين يستطيعون تدبر أمورهم في ظل فشل تقديم الخدمات، إلا أن المياه ليست عنصرا يمكن الاستغناء عنه.

ويحث رودجرز القادة العراقيين والأكراد على بذل جهود جادة لمعالجة مشكلتيْ نقص المياه وتغير المناخ، والاستثمار بسرعة في مرافق إعادة تدوير المياه وتدابير الحفاظ عليها.

ويرى أنه "يجب تخصيص تمويل محدد في الميزانية وحمايته من المعارك السياسية والفساد الذي يقوض السياسة العامة، ويصعّب الجشع وعدم الكفاءة المتأصلة في هياكل الحكم بالبلاد تنفيذ هذه التوصيات المباشرة، وهذا أمر مؤسف".

ويواجه العراق مستقبلا يشتد فيه نقص المياه وينتشر فيه التلوث الذي يخلف مشاكل تشمل المزيد من الأمراض التي تنقلها المياه -مثل الكوليرا- والتدهور الزراعي السريع وانعدام الأمن الاقتصادي وزيادة عدم الاستقرار، في الوقت الذي يكافح فيه سكان العراق المتزايدون لتأمين المياه الأساسية للحياة.

المصدر: صحيفة العرب

م.ال

اضف تعليق