في الأسبوع الماضي أدت محادثات السلام التي تدعمها الأمم المتحدة في السويد بشأن الصراع اليمني إلى وقفٍ مؤقت لإطلاق النار بين الجيش اليمني واللجان الشعبية من جهة والميليشيات الموالية للتحالف السعودي الاماراتي في ميناء الحديدة المطل على البحر الأحمر، الذي يعد بوابةً مهمة لإرسال المساعدات الإنسانية إلى ذلك البلد الفقير؛ إذ يمر اليمن بما وصفته الأمم المتحدة بأسوأ أزمةٍ إنسانية في العالم، وتشير التقديرات إلى أنَّ هناك 14 مليون شخصٍ في اليمن معرضين لخطر المجاعة، ناهيك عن انتشار الأمراض المعدية مثل الكوليرا بسبب تلوث المياه ونقص الخدمات.
وبينما يتلقى السعوديون الجزء الأكبر من اللوم في تلك الأزمة الإنسانية في اليمن، إلَّا أنَّ غيث عبد الأحد، الصحافي البريطاني عراقي الأصل، يرى في تقريرٍ نشره بصحيفة "الجارديان" البريطانية أنَّ الإمارات، وهي الشريكة الأكثر عدوانية في التحالف السعودي، تضطلع بدورٍ أكبر فاعلية في تلك الفوضى على الأرض، سواءٌ مباشرةً أو من خلال وكلائها في الجنوب.
قليلون حول اليمن، كثيرون حول المصالح
يوضح عبد الأحد أنَّ الصراع في اليمن لم يعد حربًا واحدةً بين الحوثيين المدعومين من إيران من جهة والتحالف الذي تقوده السعودية لدعم حكومة عبد ربه منصور هادي التي أطاحها الحوثيون عام 2015 من جهة أخرى، وإنَّما يتضمن أطرافًا عدة، لكلٍ منها أجندته المستقلة ومصالحه الخاصة. والسبب الأكبر في ذلك يعود إلى التدخل الأجنبي بالقوة والمال، وخاصةً من الإمارات، التي حوَّلت الصراع إلى صراعاتٍ محلية أصغر لن تنجح في وقفها أي اتفاقية سلام، وقسَّمت اليمن الفقير إلى مناطق فوضوية تسيطر عليها فصائل مختلفة، ويتكسب من وراءها عدد من الزعماء والقادة والمنتفعين من الحرب.
من هؤلاء المنتفعين بحسب عبد الأحد شخصٌ يُدعى أيمن عسكر. فوفقًا للصحافي، كان عسكر منذ أربع سنوات يقضي حكمًا بالسجن مدى الحياة بسبب جريمة قتل، لكنَّه الآن رجلٌ ثري نافذ يمتلك أراضٍ ومزارع ويتمتع بعلاقاتٍ قوية مع مختلف الأطراف، وعينته مؤخرًا الحكومة اليمنية المنفية مديرًا للأمن في منطقةٍ كبيرة من مدينة عدن الجنوبية، وهو أيضًا صديق وحليف للإمارات.
أثناء وجوده في السجن كان عسكر صديقًا لأعضاء تنظيم القاعدة، يصلي معهم ويحضر دروسهم ويمتلك نفس مظهرهم، لكنَّه لم ينضم أبدًا للتنظيم بسبب انتهازيته، التي كانت تمنعه من إعلان الولاء لقضيةٍ واحدة بحسب أصدقائه. وفي أعقاب الفوضى التي نشأت بعد الحرب السعودية الاماراتية، هاجم تنظيم القاعدة السجن لتحرير أعضائه، فخرج معهم عسكر وانضم للميليشيات إلى جانب أصدقائه الوهابيين، وأثبت كفاءته مع الوقت كقائدٍ ميداني شرس، وكان يقضي وقته بين القتال والنهب والسرقة.
وبعدها بشهور حين سيطرت الميليشيات المحلية والانفصاليين الجنوبيين وقوات السعودية والإمارات، وسَّع عسكر من نطاق عمله. ففرض إتاوةً لحماية الميناء والحصول على عمولاتٍ من السفن، رغم أوامر الاعتقال العديدة التي صدرت بحقه. وسرعان ما صادق القوات الإماراتية بالمدينة، وتطورت علاقته بالإمارات، وأصبح يسافر هناك مرارًا، ويُكافأ مقابل صداقته بعقود مشروعاتٍ مختلفة.
رحلة عسكر من السجن إلى النفوذ والثروة ليست فريدةً في اليمن الحالي، بل هي قصةٌ متكررة في خضم الصراعات المختلفة التي تمزق اليمن، ما بين حربٍ أهلية بين الشمال والجنوب، إلى صراعٍ طائفي بين السلفيين والحوثيين المنتمين لطائفة الشيعة الزيدية، وغيرها من الصراعات الأصغر التي تؤججها الأموال والأسلحة التي توفرها القوى الخارجية لأي شخصٍ لتحقيق مصالحها.
ويوضح عبد الأحد أنَّ هذه الصراعات تقسم أيضًا التحالف الذي تقوده السعودية، فأعضاء التحالف كلٌ منهم يتبع أجندته المنفصلة ويخطط لتقويض مصالح الآخرين. ويبدو هذا واضحًا في مدينة تعز، التي ينقسم فيها مقاتلو التحالف إلى أكثر من 24 فصيلٍ مسلح مختلف، وتشمل هذه الفصائل ميليشيات محلية تدعهما الإمارات، والقاعدة، وحركات جهادية أخرى. وبعض هؤلاء المقاتلين يغيرون ولاءهم من حينٍ لآخر بناءً على من يملك المال الكافي.
وبينما تبدو الاستراتيجية العسكرية السعودية في اليمن متخبطةً وعشوائية، تعتمد بالأساس على القصف المستمر للمدنيين وحصار الموانئ، وتراجع دورها مؤخرًا لتصبح وسيطًا للسلام بين حليفيها الإمارات وحكومة اليمن، إلا أنَّ الإمارات تبدو العضو الوحيد في التحالف الذي يملك إستراتيجيةً واضحة بحسب عبد الأحد.
لم تعد أولوية الإمارات هي مواجهة اليمنيين، حسبما أوضح جنرالٌ إماراتي لأحد شيوخ القبائل السنية حين طلب مساعدته؛ إذ كوَّنت ودربت وموَّلت جيوشًا خاصة لسحق الحركات الوهابية وأحزاب الإسلام السياسي مثل حزب الإصلاح، وبنت قواعد عسكرية بطول الساحل الجنوبي حيثُ تتحالف مع الانفصاليين الجنوبيين، وأسست ما يمكن اعتباره دولةً موازية، لها أجهزتها الأمنية الخاصة. وكل هذا، إضافةً إلى تحكمها في الممرات المائية الاستراتيجية في البحر الأحمر والخليج، يوضح وفقًا لعبد الأحد كيف تسعى الإمارات لبسط نفوذها في المنطقة والعالم. ولهذا اعتاد بعض الوزراء اليمنيين الإشارة للإماراتيين بأنَّهم قوة احتلال.
الأسباب الكامنة للفوضى
بالطبع هذه الفوضى في اليمن لها أسبابها التي تعود لسنواتٍ مضت ما قبل الحرب الحالية. ويوضح عبد الأحد أنَّ الشرارة الأكبر بدأت مع انتفاضات الربيع العربي عام 2011. فمع إطاحة التظاهرات لعلي عبد الله صالح من الحكم، وتولي عبد ربه منصور هادي السلطة بدلًا عنه، بدأت الفصائل المختلفة تتناقش في عملية الانتقال السياسي في العاصمة، لكن في الوقت نفسه في الشمال والجنوب، كانت بعض تلك الفصائل بالفعل تتقاتل لفرض سيطرتها على الأرض.
ويشير عبد الأحد إلى أنَّه رغم طرد حكومة هادي، لم يتمكن الحوثيون من السيطرة على عدن تمامًا. ففي ليلةٍ وضحاها، امتلأت المدينة برجالٍ محليين مسلحين. لم يكن هؤلاء تابعين لتنظيماتٍ أو لهم مقار خاصة، بل كانوا رجالًا محليين: أصدقاء، أو نشطاء، أو جيران، أو أقارب، احتشدوا فقط حول زعيمٍ محلي أو مُموِّل أو رجل عصابة. بعضهم كانوا سلفيين، والبعض كان من الانفصاليين الجنوبيين، والبعض كان من القاعدة، والبعض كانوا شباب عاطلين. ولم تكن هناك حدودٌ فاصلة، فكان يمكنك أن تجد زعيمًا سلفيًا، لكنَّه في الوقت نفسه من الانفصاليين الجنوبيين. ولم يكن دافع الشباب للمشاركة هو الأيديولوجيا، بل كراهية الحوثيين، والإعجاب بوفرة المال والأسلحة. وكان أكثر هذه الفصائل تنظيمًا وقوةً وتعصبًا السلفيين، الذين تحركَّوا للدفاع عن سُنِّية المجتمع اليمني حسب قولهم. وقاتل تحت لوائهم الكثيرون من فئاتٍ مختلفة، ولأسبابٍ طائفية وأيديولوجية أصبحوا هم المتلقي الرئيس للأسلحة والمال الذين يوفرهما التحالف.
جمعت الحرب بذلك حماسة الحركة الانفصالية في جنوب اليمن مع الطائفية السلفية والجهادية. وكان هذا مزيجًا شديد الخطورة حسبما يرى عبد الأحد. اجتاح هذا المزيج عدن. وبعد سيطرة الميليشيات بعد أربعة أشهر، زادت آمال الحركة الجنوبية لتحقيق الاستقلال التي تحلم به. فلأول مرة منذ 1994، حين هُزم الجيش الجنوبي وتحطم حلم الانفصال، لم تكن المدينة تحت سيطرة الشمال، وكان الجنوبيون يملكون أجهزة الأمن والأسلحة والمال، وداعمًا قويًا يتمثل في الإمارات، التي كانت تسيطر على الجبهة الجنوبية.
كانت عدن تحتفي بالإماراتيين في 2015 وتصفهم بالمحررين، وزيَّنت صور حكام الإمارات الشوارع وبيعت أعلامها في المتاجر. ظن الناس أنَّ مدينتهم ستصبح دبي أخرى، وأنَّ الخدمات ستعود وسيستعيد ميناء المدينة مجده، لكن في الواقع كان الأمر مختلفًا؛ إذ ظلت عدن مدينةً مدمرة، وظل أهلها فقراء مشردين، وبدلًا عن الحوثيين سيطرت على المدينة عشرات الفصائل المسلحة، وكانت هذه الفصائل تطالب بحصتها من الغنائم. وبينما سيطر الأقوياء من زعماء هذه الفصائل، مثل أيمن عسكر على الموانئ والمصانع، وأي مؤسساتٍ تُدر المال، اكتفى الزعماء الأضعف بنهب الممتلكات العامة والخاصة، وخاصةً لو كانت تعود للشماليين.
خلجنة العرب
بحسب عبد الأحد، مع زيادة الفوضى بالمدينة، والتنافس بين أعضاء التحالف، وانتشار الميليشيات، وتوسُّع القاعدة في الجنوب، تحولت آمال سكان عدن إلى شعورٍ بالغضب والإحباط. ورأى أحد زعماء السلفيين أنَّه ينبغي فعل شيءٍ ما. وكغيره من الزعماء في اليمن، راح الشيخ يُجري زياراتٍ منتظمة إلى الإمارات. وخلال إحدى زياراته، التقى أستاذًا جامعيًا كبيرًا من مستشاري محمد بن زايد، ولي عهد الإمارات وقائد قواتها المسلحة. صاغ المستشار حينها عبارةً جديدة، وهي خلجنة العرب، وهي عبارةٌ أصبحت شائعةً بين النخبة الحاكمة في أبوظبي منذ ذلك الحين.
يوضح عبد الأحد أنَّ مبدأ خلجنة العرب وفقًا للمستشار ينطوي على أنَّ نجاح العالم العربي يعتمد على اتباع نموذج ممالك الخليج، أي التنازل عن الديمقراطية والتمثيل الشعبي مقابل الاستقرار المالي والأمن. وآمن الشيخ السلفي سريعًا بهذا المبدأ. ما جعله يجلس ذات ليلةٍ في أبوظبي لكتابة خطابٍ طويل إلى حلفائه الإماراتيين، لوضع خارطة طريق لإنقاذ اليمن والتحالف الذي تقوده السعودية. وصاغ في خطابه المشاكل التي تهدد تدخل الإمارات في اليمن.
وفي بيانٍ مكون من 16 نقطة، تحت عنوان خريطة طريق إنقاذ عدن، دعا الشيخ إلى تأسيس قوةٍ أمنية جديدة مُكوَّنة من مقاتلي الميليشيات، وتكوين جهاز استخبارات جديد، وخلجنة اليمن عن طريق منع تكوين الأحزاب السياسية وبالتالي عدم إجراء انتخابات. وحذَّر من أنَّ النزعة الانفصالية تسيطر على عدن، واقترح أن تستغل الإمارات الأمر بتمويل مجموعةٍ من الانفصاليين تدين لها بالولاء، لمنع أي قوة أخرى مثل قطر أو إيران من احتواء الحركة الجنوبية. وأوضح الشيخ لعبد الأحد أنَّه كان يعلم أنَّ الإماراتيين لهم أجندتهم الخاصة، لكنَّه لم يرَ مشكلةً في التعاون معهم؛ لأنَّه يحتاجهم ويعتمد عليهم؛ حتى لا تحدث كارثة وتتدمَّر عدن.
وبعد عودته إلى عدن، تعاون الشيخ مع جنرال إماراتي لجمع وتدريب قوة أمنية جديدة موالية لهما، وقادرة على التعامل مع التهديد "الوهابي" المتزايد حسب وصفه. وبينما كان الجميع في العلن يُعلن دعمه لمؤسسات الحكومة اليمنية وبناء جيشٍ يمني حديث، كانت الحقيقة أنَّ الإماراتيين يريدون قوتهم الخاصة التي يتحكمون بها دون تدخل هادي، الذي تراه الإمارات عقبةً خاصةً بعد تحالفه مع حزب الإصلاح عدوها اللدود.
وقال الشيخ السلفي لعبد الأحد عن تلك القوة العسكرية، التي سُمِّيَت باسم الحزام الأمني: "كان الجيش اليمني الحالي والشرطة فاسدين وفاشلين. وقضت الخطة أن ندرب ونجهز قوة من 3 آلاف رجل، لكنَّنا وجدنا أنفسنا أمام قوةٍ قوامها 13 ألف رجل، فقسَّمناها إلى أربع كتائب". ووفقًا لعبد الأحد، كان القائد العام لهذه القوة الجديدة، وقادة الكتائب جميعهم من السلفيين الجنوبيين، وكذلك كان بعض المقاتلين. وتولى الشيخ منصبًا رفيعًا في قيادة القوة.
ويوضح عبد الأحد أنَّ الإمارات كوَّنت مع الوقت نحو ستة جيوش، منتشرة في عدن وجنوب اليمن. كان قادتها بمثابة أمراء حرب مستقلين، لديهم دبابات وسجون وقوات موالية لهم. ولم تكن هناك قيادة مركزية تجمع كل تلك الجيوش، ولم يكن لحكومة هادي سيطرةٌ عليها.
عملت هذه الجيوش تحت إمرة الجنرال الإماراتي مباشرةً، كان يحركها كيفما شاء، ويمن عليها بالمال حسب تعاونها وفاعليتها. وبعكس وحدات الجيش الموالي للسعودية بأعدادها الضخمة الصورية، كان المقاتلون في القوات التي تسيطر عليها الإمارات يحصلون على مستحقاتهم بانتظام، وكانوا أفضل تجهيزًا، وعُرفوا بوحشيتهم الشديدة، والحصانة التي تمتعوا بها، بينما يعتقلون ويعذبون ويقتلون معارضيهم.
وعن الكيفية التي تعمل بها تلك القوات على الأرض، أشار عبد الأحد إلى لقاءٍ أجراه مع قائدٍ في قوات الحزام الأمني قابله في قاعدته شمال عدن، بالقرب من نقطة تفتيش كبيرة تفصل المدينة عن محافظة لحج المجاورة، حيثُ يتمتع الوهابيون بنفوذٍ قوي. شرح القائد كيف تمكنت قواته من السيطرة على مواقعها في المدينة قائلًا: كانت معركةً شرسة، لأسابيع كنا ننام أكثر بقليل من ساعتين أو ثلاث يوميًا، نجوب الشوارع ونختطف المشتبهين في انتمائهم للقاعدة… كان الأمر بسيطًا، كنا نقتل القادة والأشرار منهم، ومن كنا نرى إمكانيةً في إصلاحه، مثل المتعاونين مع التنظيم أو أصحاب المتاجر التي تتعامل معه، كنا نعذبهم ونسجنهم، ثم نطلق سراحهم بعدها بستة أشهر بعد أن يوقعوا تعهدًا لنا. أمَّا بقية السكان فكنا نسيطر عليهم من خلال المخبرين.
وباء الاعتقالات والتعذيب
وفقًا لتقريرٍ نشرته الأمم المتحدة هذا العام، تحتجز جميع الفصائل المشتبه بهم دون محاكمات وتعذبهم. فلا أحد يمكنه حاليًا منافسة القوات التي تدعمها الإمارات في عمليات الاحتجاز والاختفاء القسري والتعذيب. إذ كشفت منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش عن وجود شبكةٍ من السجون السرية تديرها الإمارات والقوات التابعة لها، المسؤولة عن اختطاف وتعذيب أعضاء حزب الإصلاح، والنشطاء الذين ينتقدون التحالف السعودي الإماراتي.
ووفقًا لمحاميةٍ حقوقية قابلها عبد الأحد، تعمل مع وزارة العدل اليمنية على قوائم حصر المحتجزين وجمع شهاداتهم وشهادات عائلاتهم: بعد معركة عدن توقعنا أن تؤسس الإمارات جيشًا واحدًا، لكنَّها أسست عشرات الجيوش، وكلها تحتجز أي شخصٍ يعارضها. الحجة هي مطاردة أعضاء تنظيم القاعدة، لكن أي شخصٍ لا يوافق على ما تفعله تلك الجيوش يُحتجز، ويتعرض للتعذيب، عادةً بالتعليق من السقف، والكثيرون يتعرضون للاعتداء الجنسي. والمُحزن أكثر أنَّ الجنوبيين الآن أصبحوا يعذبون الجنوبيين بمباركة الإماراتيين، بينما تراقب حكومة هادي قليلة الحيلة دون تدخُّل.
وأوضحت المحامية أنَّ هناك على الأقل 5 آلاف حاجة احتجاز، مضيفةً: ليست لدينا سلطة… طالبنا بزيارة السجون، لكن لا رد حتى الآن. حتى لو كان المحتجزون ينتمون للقاعدة، لا يمكن تعذيبهم هكذا. إنَّهم يخلقون قنبلةً زمنية بتعذيب كل هؤلاء الناس، ووضع الأبرياء مع الارهابيين والأطفال مع الشيوخ في زنازين مزدحمة بهذا الشكل.
وبحسب المحامية، أصبح الخوف يسيطر على عدن الآن، والوضع أسوأ مما كان قبل الحرب. والمشكلة أنَّ البعض لا يعرفون لمَ يخضعون للاحتجاز والتعذيب، والبعض الآخر يُعتقلون للضغط على أفراد عائلتهم، حسبما أوضح شابٌ اعتقله رجالٌ ملثمون من بيته وأخذوه إلى قاعدة قائد قوات الحزام الأمني في عدن، المعروف باسم أبي اليمامة. تعرض الشاب للاستجواب والتعذيب بالحرق، وبدت الحروق على جسده واضحةً بعد الإفراج عنه، وكل هذا لإجبار أخيه على الاعتراف بعمله مع الوهابيين، رغم عدم صحة ذلك وفقًا للشاب. بالطبع وقَّع أخوه اعترافًا زائفًا عندما شاهد فيديو تعذيبه على الفور.
ويوضح عبد الأحد أنَّه حين سأل الشيخ السلفي عن تلك الانتهاكات، قال: إنَّ شركاء الإمارات المحليين هم من يرتكبونها، سياسة استهداف واحتجاز المشتبهين في انتمائهم للقاعدة مقبولة دوليًا، والإماراتيون شركاء مع الولايات المتحدة في هذا… لكن أن تحتجز شخصًأ لعام كامل وتعذبه لأنَّ ابنه متهم بالانضمام للقاعدة، فهذه مشكلة.
أمَّا عن أبي اليمامة، فهو اسمٌ يثير الرعب في عدن بحسب عبد الأحد. كان أبو اليمامة ضابطًا في حرب استقلال الجنوب في الماضي، لكنَّه الآن أحد وكلاء الإمارات، يرأس قواتٍ من النخبة دربتها القوات الإماراتية الخاصة، وهي مسؤولة عن أسوأ الفظائع التي تُرتكب في اليمن حاليًا. أنكر أبو اليمامة كل مزاعم الاحتجاز التعسفي والتعذيب، واصفًا إياها بحملة تشوية تثيرها حركة الإخوان المسلمين للإضرار بسمعة قواته، وقال: ماذا يتوقعون مني أن أفعل مع أشخاصٍ يجولون الشوارع بأحزمةٍ ناسفة؟ هل أرسل لهم ورودًا وأدعوهم بأدب أن يأتوا لزيارتي؟
استغلال أحلام الاستقلال في الجنوب
لم يمت حلم الاستقلال أبدًا في الجنوب. إذ يحن سكان عدن لتاريخهم المجيد بسبب ما يلقوه في حاضرهم البائس. وهذا الشعور بالحنين عادةً ما يكون مخدرًا وغير ضار، إلا أنَّه حين يمتزج بالنزعات الطائفية والقومية، يخلق مزيجًا مدمرًا بحسب عبد الأحد.
ووفقًا للصحافي، تعرَّض حلم الجنوبيين بالاستقلال على مدار السنوات للإجهاض، وما بدا كاتحادٍ بينهم وبين الشمال كان ببساطة هيمنةً شمالية على حياتهم ونظام معيشتهم. وقوبلت تظاهراتهم في السنوات الأخيرة بالقمع والعنف من قوات الأمن تحت رئاسة صالح ثم هادي، وتعرضوا للاحتجاز والتعذيب، وأحيانًا القتل خارج إطار القانون. وتجاهل الجميع قضيتهم في المنطقة وخارجها.
لكنَّ الوضع الآن يختلف كثيرًا، أو كما أوضح أحد قادة المجلس الانتقالي الجنوبي لعبد الأحد: الآن لدينا جيش، ونسيطر على الجنوب، ولدينا حليف إقليمي يقف بجانبنا. هذا المجلس هو الهيئة المنظمة الأساسية لعملية الانفصال، والقوة السياسية الأبرز في الجنوب، ويحظى بدعمٍ هائل من الإمارات (وفقًا لعبد الأحد، كان تأسيس المجلس أحد النقاط الست عشرة التي تضمنتها خارطة الطريق التي وضعها الشيخ السلفي، وهو أيضًا عضوٌ بالمجلس).
وتابع القائد متحدثًا لعبد الأحد: لم نكن يومًا بهذه القوة في الجنوب. يقول الناس إنَّنا تحت قيادة الإماراتيين، كأنَّهم يحركوننا عن بعد، لكنَّ الإمارات ليست جمعيةً خيرية، بالطبع لديها مصالحها، وهي تأمين الساحل والتخلص من القاعدة، وأن يكون لها حليف هنا في جنوب اليمن. احتاج الإماراتيون شريكًا، وعندما شاهدوا فشل حكومة هادي، اضطروا إلى التحرك.
لكنَّ حلم الاستقلال ذلك يحيط به الكثير من الغموض. أو كما يوضح عبد الأحد، فإنَّ حماسة الانفصاليين تتجاهل الجوع والقمع الذي شهدته سنوات الانفصال حين راح أبطال الاستقلال بعد طرد البريطانيين في الستينات يتقاتلون في ما بينهم على شكل الدولة في الجنوب، وتصاعد العنف بينهم وصولًا إلى الحرب الأهلية الجنوبية التي استمرت 10 أيام في 1986، لكنَّ عبد الأحد لا يرى أنَّ التاريخ يكرر نفسه بوصول اليمن إلى الصراع الحالي في الجنوب، وإنَّما يوضح أنَّ الإماراتيين خلقوا الظروف المواتية لاستئاف الصراع والحرب الأهلية في اليمن، كما فعل الأمريكيون في العراق بالتحالف مع طرفٍ واحد، وحولوا العراق إلى تربةٍ خصبة لحرب أهلية وحشية دمَّرت البلاد.
ويتجلى القنوط تجاه ما تسببت به الإمارات في تعليق ناشطٍ جنوبي أثناء حديثه مع عبد الأحد؛ إذ قال الشاب: لم أعد أريد للجنوب أن يستقل. لسنوات حلمنا أنا وأصدقائي بالجنوب، لكن إن كانوا منقسمين بهذا الشكل الآن، ماذا سيحدث إن تحولوا إلى دولة؟ سيقتلون بعضهم في الشوارع كما فعلوا في الماضي.
يسقط الاحتلال الإمارات
يشير عبد الأحد إلى أنَّه رغم انتشار الأعلام الإماراتية وصور ابن زايد وغيره من القادة على الملصقات واللافتات ورسوم الجرافيتي في شوارع عدن هذا الصيف، فإنَّ شعارات يسقط الاحتلال الإماراتي بدأت في الظهور مع الوقت أيضًا.
مع انتفاضات الربيع العربي، والفوضى العنيفة التي نتجت عنه وتسببت في تغيير موازين القوى في المنطقة، استغلت الممالك الخليجية الفرصة لبسط هيمنتها بالتدخل في صراعات جيرانها، فموَّلت جيوشًا في سوريا وليبيا واليمن، ودعمت انقلابًا عسكريًا في مصر. وتحت حكم ابن زايد، تبنت الإمارات سياسةً خارجية أكثر حزمًا، لتُرسخ نفسها كقوةٍ إقليمية.
وفي الصراع اليمني، يوضح عبد الأحد أنَّ الإمارات لديها ثلاث مهام أساسية منفصلة عن دعمها للتحالف الذي تقوده السعودية: سحق جميع صور الإسلام السياسي؛ والتحكم في الشريط الساحلي على البحر الأحمر لأهميته الاستراتيجية بالنسبة لها، وقربه من منطقة قرن أفريقيا؛ حيث تملك قواعد عسكرية في جيبوتي وإريتريا؛ وتأسيس ودعم قواتها الخاصة التي تشرف على وكلاء محليين مثل قوات الحزام الأمني.
لا يبدو أنَّ حلفاء الإمارات في اليمن يشعرون بالدهشة من سعيها الواضح لتحقيق هذه الأهداف الجيو-سياسية، لكنَّه تسبب في اتساع نطاق الانتقادات الموجهة للإمارات في عدن هذا الصيف، وخاصةً بين الفقراء، الذين تحطمت آمالهم في الخروج من حالة الفقر بسبب استمرار نقص الخدمات وانتشار الأمراض وانهيار الريال اليمني.
تراجعت الطموحات وساد الغضب والإحباط، واختفى الحماس تجاه المجلس الانتقالي الجنوبي، وحلَّت الصراعات الداخلية محله. حتى السلفيين – أقوى حلفاء الإماراتيين – بدأوا يشعرون أنَّهم أداةٌ تُستغل لتحقيق مصالح الإمارات، أو كما علَّق بغضب أحد القادة السلفيين السابقين الذين توقفوا عن القتال بجانب الإمارات في حديثه مع عبد الأحد: لماذا نُرسل أفضل رجالنا للموت على الجبهة، ونقصف المدنيين المحاصرين بيننا وبين الحوثيين، فقط لأنَّ الإماراتيين يريدون السيطرة على الساحل؟.
ووفقًا لعبد الأحد، يرى بعض قادة الحركة الجنوبية أنَّ الحرب مع قوات الحزام الأمني أصبحت محتومةً. التقى عبد الأحد ثلاثةً من هؤلاء، كانوا يقاتلون مع المقاومة ويظنون أنفسهم أصدقاءً للإماراتيين، ويتلقون منهم الأسلحة والمال والشاحنات، لكنَّهم قالوا إنَّهم في العام الماضي تعرضوا للاعتقال أو محاولات الاغتيال على يد قوات الحزام الأمني.
تحوَّل هؤلاء الثلاثة لمعسكر هادي. وحين سأل عبد الأحد واحدًا منهم عن سبب توقفه عن المناداة باستقلال الجنوب، واتجاهه لمواجهة الإماراتيين والمجلس الانتقالي، قال: كنا نريد دولةً جنوبية مبنيةً على المؤسسات، لا الميليشيات، لكن ما نملكه الآن هو حالة فوضى يقتل فيها المسلحون الملثمون من يريدون، ويحتجزون من يعارضهم، حسب رغبتهم. هذا ليس الجنوب الذي كنتُ أدعو إليه. إمَّا أن يستولي الإماراتيون على الجنوب ويعلنوه مستعمرةً إماراتية، أو يحترموا الناس والرئيس.
حتى الشيخ السلفي أعرب عن امتعاضه لعبد الأحد؛ ففي آخر لقاءٍ بينهما قال له: الجنوبيون يحكمون الجنوب منذ ثلاث سنواتٍ الآن، ومع ذلك فالتجربة فاشلة. ما زال الشيخ مصرًا على ضرورة بقاء الإماراتيين؛ لأنَّهم إن رحلوا – حسب قوله – فمن الممكن أن نخسر عدن مرةً أخرى، وستقاتل تلك الجيوش بعضها. نحتاج إلى بقائهم. وفي الوقت نفسه، أخطاؤهم تشعرني بالإحباط. أنا متفهمٌ أنَّهم ما زالوا يتعلمون، وأنَّهم ليست لديهم خبرة الدول الاستعمارية، لكنَّهم يتصرفون بعجرفةٍ كما لو كانوا دولةً استعمارية بالفعل.
وأضاف الشيخ لعبد الأحد في نهاية حديثه: أعلم أنَّ سنتين لا تعد فترةً طويلة في عمر دولةٍ تحاول بناء إمبراطورية، لكنَّه وقتٌ أكثر من كافٍ لتُحول أصدقاءك إلى أعداء.
اضف تعليق