تعيش أوروبا أزمة في ظل مساعي الإدارة الأميركية الجديدة لإنهاء حرب أوكرانيا وتقليص حضورها العسكري في القارة و"ناتو"، مما يكشف دولاً أوروبية على "المطامع" الروسية وفقاً لتقديرات استخباراتية غربية، خصوصاً أن اعتماد الأوروبيين على أنفسهم دفاعياً ليس متاحاً بالسرعة المرجوة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشونها اليوم.
يبلغ عدد سكان الدول الأوروبية المتخاصمة مع روسيا أكثر من نصف مليار نسمة، وعلى رغم ذلك تعتمد في حمايتها على قوات أميركية تنتشر في قواعد كثيرة على امتداد القارة العجوز، وبينما تفكر الولايات المتحدة اليوم بسحب تلك القوات تنفيذاً لشعار رئيس الدولة الجديد دونالد ترمب "أميركا أولاً"، يبرز السؤال حول خيارات الأوروبيين في الدفاع عن أنفسهم ضد أي تهديد خارجي، سواء كان من الجار فلاديمير بوتين أو غيره.
بين خصوم بوتين في القارة العجوز 27 دولة منضوية تحت راية الاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر اقتصاد حول العالم، ودولة هي بريطانيا كانت يوماً تهيمن على ربع الأرض شعوباً ومساحة، وهذه الدول مجتمعة أو منفردة لا تملك جيوشاً ولا عتاداً عسكرياً كافياً لتبقي أوكرانيا صامدة في مواجهة الهجوم الروسي المستمر على أراضيها منذ ثلاثة أعوام، وفيما تعجز عن هذا، لا تستطيع أيضاً صد عدوان مشابه يقع عليها مباشرة.
لعقود طويلة، بقيت الدول الأوروبية تعتمد في حمايتها على حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تقوده الولايات المتحدة، فإذا قررت واشنطن اليوم سحب القوات الأميركية من أوروبا فهذا يعني أن الحلف الدفاعي قد يصبح بلا قيمة، فإما أن يستبدل بجيش أوروبي لم يولد بعد، أو تعمل لندن وباريس وبرلين ومدريد وروما على صفقة تقنع ترمب بالعدول عن "خطة السلام" التي وضعها لإنهاء حرب أوكرانيا من دون قيود تمنع بوتين من استهداف جارة أخرى.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قال أمام مؤتمر ميونيخ للأمن إن الوقت حان لإنشاء جيش أوروبي يأخذ على عاتقه حماية دول القارة من "العدو الروسي"، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدعو إلى هذه الخطوة منذ أعوام "ولا حياة لمن تنادي"، وحتى الأقل منها بكثير، أي تشكيل قوات موقتة تساند الأوكرانيين أو تحفظ السلم بينهم والروس إن وقع، ولا يبدو أنها مهمة سهلة وقابلة للتنفيذ من دون مساعدة الأميركيين.
القائد السابق للجيش البريطاني ريتشارد دانت قال إن الجيش "مستنزف للغاية" ولا تمكنه قيادة أي مهمة لحفظ السلام في أوكرانيا، منوهاً إلى أن المملكة المتحدة "تحتاج إلى نحو 40 ألف جندي لمثل هذه المهمة غير متاحين حالياً"، على رغم أن رئيس الحكومة كير ستارمر قال سابقاً إن "بلاده مستعدة للقيام بدورها في ضمان أمن أوكرانيا".
وستارمر وقّع اتفاقاً تاريخياً مع أوكرانيا الشهر الماضي يمتد على 100 عام، ويتضمن أكثر من 12 مليار جنيه استرليني دفعتها لندن لكييف مع التزامات سنوية بقيمة ثلاثة مليارات ما دام أن الحاجة تستدعي ذلك، فإذا كانت هذه الأموال ستحسب من موازنة الدفاع البريطانية فيجب على الحكومة زيادة إنفاقها العسكري بأي شكل كان.
دانت يرى أن ستارمر سيذهب إلى "مزبلة التاريخ" إذا لم يرفع الموازنة العسكرية لبريطانيا، خصوصاً أنها يجب أن تقود مع فرنسا قوة يصل قوامها إلى 100 ألف جندي لحفظ سلام طويل الأمد عندما تنتهي الحرب بين روسيا وأوكرانيا على "طريقة ترمب" التي تتضمن كما رشح حتى الآن وفق تقارير إعلامية، إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين البلدين.
وتخوض لندن وباريس مفاوضات مع عواصم أخرى في أوروبا لحشد القوات المناط بها "حفظ السلام" إن وقع في أوكرانيا، ولكن ذلك لن يبعد شبح هجوم روسي على دولة أخرى في القارة تقدر الاستخبارات الدنماركية بأن يقع بعد ستة أشهر على انتهاء حرب أوكرانيا.
وزير الدفاع الألماني كارستن بروير يقول إن "التهديد الروسي خطر للغاية" والمشكلة أن ترمب وأعضاء إدارته سواء نائبه أو وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، يؤكدون في كل مناسبة أن بلادهم لن تواصل حماية حلفائها في أوروبا بالطريقة ذاتها التي اعتادوا عليها خلال العقود الماضية، وقد حان الوقت كي يعتمدوا على أنفسهم.
وإن كان الأوربيون لا يستطيعون مسابقة الزمن كي يصنعوا جيشاً يغنيهم عن الخارج، فعليهم أن يحافظوا على صلابة "ناتو" الذي يجمعهم مع أميركا ودول أخرى، لكن حتى هذه المهمة لن تكون سهلة إذا همشت واشنطن الحلف الدفاعي وتخلت عن دعمه بالقوات والعتاد كما جرت العادة، أو إذا قررت في لحظة الانسحاب منه بصورة كاملة.
لا يوجد ما يدلل على قرارات أميركية تجاه الانسحاب من حلف شمال الأطلسي، لكن المؤكد أن ترمب لن يستمر فيه ما دام أن الأوروبيين يتقاعسون عن رفع موازناتهم العسكرية، ليس فقط إلى نسبة 2.5 في المئة كما تقول قوانين الحلف، وإنما إلى ما يزيد على خمسة في المئة كما تستدعي الحاجة برأيه لتعزيز حماية القارة تحت مظلة "نا".
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الضيقة التي تعيشها دول أوروبا عموماً، يصبح رفع الموازنات العسكرية خطوة مكلفة سياسياً بالنسبة إلى حكومات تلك الدول ولكن لا مفر منها، وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي فقد "بلغ السيل الزبى"، ولا بد من تفعيل "بند الطوارئ" في موازنة التكتل للنهوض بالقدرات العسكرية للأعضاء منفردين ومجتمعين، وفق رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أما المملكة المتحدة فعليها أن تواجه مشكلاتها المالية بمفردها بعدما "استقلت" عن بروكسل وراحت تبحث عن شريك اقتصادي بديل عن الاتحاد.
المستشار الألماني أولاف شولتز اقترح وصفة ربما تكون ناجعة للخروج من عنق الزجاجة التي يحاول ترمب سجن الأوروبيين فيها، فقال إنه "يتعين على أوروبا بناء صناعتها الدفاعية، إلا أن بلاده ستواصل أيضاً شراء معدات عسكرية أميركية"، مما قد يكون صفقة مرضية لترمب كي يتروى في خطط تخليه عن أوروبا و"ناتو".
والمشكلة هي إن تحققت نبوءة أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين بأن "الوقت نفد فعلاً أمام دول القارة وانتهى ’ناتو‘ بأعين الأميركيين"، كما نقلت "بوليتيكو" عن ذلك الدبلوماسي من دون ذكر اسمه أن "القارة العجوز اليوم باتت تعيش تحت رحمة تحالف بين رئيس روسي يريد تدمير أوروبا ورئيس أميركي يتطلع إلى الأمر ذاته".
متابعات النبأ
س ع
اضف تعليق