على الرغم من اختفاء مكانة روسيا العظمى بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، إلا أن روسيا ما زالت تعتبر قوة عظمى على الساحة العالمية، وذلك بسبب وضعها الجيوسياسي، وموارد الطاقة الغنية، والقوات المسلحة ذات القدرات النووية، فضلًا عن عضويتها الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي المقابل، ارتفعت مكانة أفريقيا في النظام الجيوسياسي الدولي بشكل كبير، منذ نهاية الحرب الباردة، وخاصة خلال العقد الماضي.
روسيا تُقحم نفسها في دائرة الصراع
خلال السنوات التي تلت تولي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منصبه رئيسًا للبلاد، سعت موسكو إلى استعادة مكانتها التي فقدتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ إذ تمكَّن بوتين مؤخرًا من إيجاد موطئ قدم له في الشرق الأوسط، بتدخله في الصراع السوري، لصالح حليفه الرئيس السوري بشار الأسد، والآن يبدو أن الرئيس الروسي يسعى جاهدًا إلى دخول القارة السمراء.
فقد ذكرت وكالة «رويترز» نقلًا عن وكالة الأنباء الروسية، «ريا»، أن روسيا بدأت في توسيع علاقاتها الدبلوماسية مع إريتريا، حيث أعلنت موسكو في أواخر أغسطس الماضي، عن خطط لبناء مركز لوجيستي في الدولة الواقعة في شرق أفريقيا.
من جانبه، كشف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، عن هذه الخطط في اجتماع مع وفد رفيع المستوى من إريتريا، وفقًا لوكالة «ريا» الروسية للأنباء؛ إذ أرسلت إريتريا وفدًا برئاسة وزير الخارجية عثمان صالح والمستشار الرئاسي يماني غريب، إلى مدينة سوتشي الروسية، لمناقشة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين التي استمرت 25 عامًا.
وعلى الرغم من أنه لم يتم الإعلان عن نطاق المشروع وموقعه وجدوله الزمني، فإن التطور الدبلوماسي بين البلدين أمر بالغ الأهمية لكل منهما، إذ تسعيان إلى توسيع علاقاتهما الثنائية؛ والاستفادة من هذا الأمر. فبالنسبة لروسيا؛ كانت هذه آخر جهودها من أجل إقامة تحالفات مع دول أفريقيا، بعد رحلات متعددة قام بها لافروف إلى القارة هذا العام لمناقشة الشراكات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية.
فعلى سبيل المثال؛ وقّعت روسيا في أواخر أغسطس الماضي، اتفاقية تعاون عسكري مع جمهورية أفريقيا الوسطى، يُركِّز على تدريب القوات المسلحة في البلاد. أما بالنسبة لإريتريا، فقد مثل التقارب المتعمق مع روسيا علامة أخرى على انتهاء عقود من العزلة التي فرضت على البلاد، خاصة بعد اتفاق سلام تاريخي في يوليو (تمّوز) الماضي، مع إثيوبيا المجاورة.
ومنذ التوقيع على هذا الاتفاق، التقى أسياس أفورقي رئيس إريتريا، بقادة من السعودية والإمارات والصومال وجنوب السودان، واستقبل كذلك وفودًا من اليابان وألمانيا.
وتجدر الإشارة إلى أن كلاً من مينائي مصوع وعصب الإريتريين، يُعدان نقاطًا استراتيجية على طول البحر الأحمر، وعلى الرغم من أنه لم يتم الإعلان عن تفاصيل الغرض من المنشأة اللوجيستية الروسية المخطط لها، فإن القادة الروس والإريتريين أكدوا أن المشروع سيؤدي إلى تنشيط التجارة بين الدولتين.
وإذا تابعت روسيا خططها لإنشاء المركز اللوجستي، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي تُنشئ فيها دولة أجنبية مصالح استراتيجية في إريتريا؛ إذ تُعد عصب موطنًا لقاعدة بحرية إماراتية، وسبق وأن سمحت إريتريا للإمارات بشن غارات منها لمحاربة المتمردين الحوثيين في اليمن.
لماذا القرن الأفريقي؟
وتكتسب منطقة القرن الأفريقي أهميتها الاستراتيجية باعتبارها مجاورة للمحيط الهندي، علاوة على أنها نقطة اتصال مع شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، إضافة الى وجود مضيق باب المندب الذي يعتبر ممرًا هامًا تستخدمه ناقلات النفط والغاز والبضائع والأسلحة، مما جعل المنطقة محطة استراتيجية تتجه إليها الأنظار الدولية.
فبالإضافة إلى الدول التي يمر نفطها عبر المنافذ البحرية لهذه المنطقة، هناك دول أخرى حاولت توسيع نفوذها في هذه المنطقة الحساسة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الدول الأخرى الصاعدة مثل الصين واليابان وتركيا وإسرائيل وإيران وغيرهم.
وبسبب هذه الأهمية الاستراتيجية الكبيرة، شهدت المنطقة الكثير من الصراعات بين القوى العظمى في فترة الحرب الباردة، وخاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وشهدت أيضًا حربًا بالوكالة بين بعض دول المنطقة، لكن بعد تراجع الاتحاد السوفيتي، ومن ثم انهياره في بداية تسعينيات القرن الماضي بدأ التنافس بين بعض القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا.
الجدير بالذكر أن أهمية القرن الأفريقي لا تقتصر على اعتبارات الموقع فحسب، وإنما تتعدى ذلك الحد؛ إذ يتعلق الأمر بالموارد الطبيعية أيضًا، خاصة البترول الذي بدأ يظهر في الآونة الأخيرة في السودان (وهو ما يعد أحد أسباب سعي واشنطن تحديدًا لإيجاد حل لقضية الجنوب) وكذلك في الصومال. ويضاف إلى ذلك وجود جزر عديدة، ذات أهمية استراتيجية من الناحية العسكرية والأمنية في حالتي الحرب والسلم مثل جزيرتي حنيش، ودهلك في إريتريا.
بالسلاح والمال.. هكذا يرمم بوتين إمبراطوريته
لم يكن التعاون والتقارب الروسي مع إريتريا هو الأول مع دول القارة السمراء؛ فكما ذكرنا، وقعت روسيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، في أغسطس (آب) الماضي، اتفاقًا عسكريًا يمهد الطريق لموسكو لزيادة تدريب القوات المسلحة للبلاد.
ومنذ هذا الوقت، تم تسليط الضوء على العلاقات العسكرية الروسية المتنامية مع جمهورية أفريقيا الوسطى والاهتمام الروسي المتزايد بأفريقيا بشكل عام، خاصةً بعد مقتل ثلاثة صحافيين روس، في أثناء إجراء تحقيق صحفي في مزاعم وجود مرتزقة روس في البلد التي تعاني من حرب أهلية في يوليو (تموز) الماضي.
وسلمت روسيا أسلحة خفيفة إلى قوات الأمن في جمهورية أفريقيا الوسطى في وقت سابق من هذا العام، وقالت إنها نشرت 175 من المدربين العسكريين والمدنيين لتدريب قواتها؛ وذلك بعد أن حصلت موسكو على تصريح تداول الأسلحة مع أفريقيا الوسطى بعد الحظر الذي كان مفروضًا عليها من قبل.
وتعد روسيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة، بحسب موقع «بيزنيس إنسايدر»؛ وهي تستخدم بيع الأسلحة نقطة انطلاق في سياستها الخارجية، إذ استخدمت موسكو هذا النموذج من تصدير الأسلحة في العديد من البلدان الأفريقية مثل السودان وإريتريا لإيجاد موطئ قدم سيسي لها في تلك المناطق.
وفي أبريل (نيسان) 2016، عقد رئيس الوزراء الصومالي السابق عمر عبد الرشيد علي شرماركي اجتماعًا ثنائيًا مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، وطلب المساعدة والدعم الروسي لتعزيز قدرة الجيش الصومالي على القتال ضد حركة الشباب المجاهدين.
وإلى جانب بيع الأسلحة، تمثل المصالح الاقتصادية خاصة في الموارد الطبيعية، الجزء الرئيسي من العلاقات بين روسيا ودول القرن الأفريقي. وفي هذا السياق، وقعت شركة الطاقة النووية الروسية «روزاتوم» Rosatom ومجلس الطاقة النووي الكيني، مذكرة تعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، بقيمة 10 مليارات دولار، وذلك في أواخر مايو (أيار) من العام 2016، خلال المنتدى الدولي الثامن للطاقة النووية الذي عقد في موسكو، وهو الأمر نفسه الذي فعلته مع إثيوبيا، ففي زيارته الأخيرة إلى إثيوبيا دشن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف مركزًا مشتركًا للتكنولوجيا النووية لتوليد الطاقة السلمية في إثيوبيا، في شهر مارس (آذار) من العام الجاري.
من أهم وسائل وسائل القوة الناعمة الروسية في أفريقيا: إسقاط الديون التي لم تستطع البلدان الأفريقية سدادها في الحقبة السوفيتية؛ إذ أسقطت روسيا ديونًا بقيمة 16 مليار دولار في عام 2008 عن دول أفريقية، وفي عام 2012، ألغت مرة أخرى ديونًا بقيمة 20 مليار دولار عن بلدان أفريقية عدة.
المصدر: ساسة بوست
اعداد : وصال الاسدي
اضف تعليق